مواطن كندي يسأل العرب والمسلمين كيف ضاعت منكم وصفة حضارة أسلافكم وهل بإمكانكم استعادتها مرة أخرى؟

مواطن كندي يسأل العرب والمسلمين

كيف ضاعت منكم وصفة حضارة أسلافكم

وهل بإمكانكم استعادتها مرة أخرى؟

محمد شركي

[email protected]

شاركني السفر على متن القطار مواطن كندي ينحدر من أصول فرنسية ، وهو في الثامنة والستين من عمره، يزور المغرب لأول مرة رفقة زوجته المنحدرة من أصول إنجليزية .ولقد بادرني السائح الكندي بالحديث ، وقدم نفسه بدعابة مشيرا إلى زوجته التي يختلف عنها في الانتماء العرقي ، وكان يتكلم فرنسية متأثرة بنبرة إنجليزية بأداء أمريكي . ولم تفته الفرصة للحديث عن الفرنسية وعن أهلها بسخرية من غرورهم خصوصا الباريزيين منهم ، و من طريقتهم في نطق فرنسيتهم وهو يجمع شفتيه ويمدهما ،ويخرج بعض الكلمات في شكل صفير. وأبدى هذا السائح اهتماما كبيرا بالمغرب وهو يزوره لأول مرة بإغراء من أبنائه الذين سبق لهم أن زاروا المغرب وأعجبوا به . وصرح بأنه قد طاف بأرجاء العالم ، وخص بالذكر مصر ، ولم تفته الفرصة للحديث عن إعجابه بحضارتها العريقة ، وجنوب إفريقيا ، وكوبا وقد أعجب بشعبها المضياف الذي يتميز عن الإنسان الأوروبي بهذه الخصلة المميزة في نظره ، وإسبانيا التي استوقفته فيها الحضارة العربية الإسلامية ، والتي أطنب في الإشادة بها وبصناعها . ولم تفته الفرصة لتكرار الاعتراف بأن الحضارة الغربية الحالية مدينة لهذه الحضارة العربية الإسلامية خلاف كثير من الغربيين الذين يجحدون هذه الحقيقة التاريخية وينكرونها . وأثناء حديثه عن الحضارة العربية الإسلامية في المشرق والمغرب طرح علي سؤالين لم أتوقعهما منه و هما : كيف ضاعت منكم وصفة حضارة أسلافكم ؟ وهل بإمكانكم استرجاعها مرة أخرى ؟ وأثار انتباهي استعماله للفظة " وصفة " علما بأن التعبير العربي فيه عبارة : " استوصف الطبيب " إذا طلب منه وصف الدواء . ولا شك أن أسلا فنا العرب والمسلمين وصفوا في عز أيامهم الدواء المناسب للبشرية لترتقي في سلم الحضارة ، وكانت لهم وصفة ناجحة أخرجت البشرية من ظلمات القرون الوسطى حيث نقب هؤلاء الأسلاف في الحضارات الإنسانية القديمة ، ووضعوا أيديهم على سر بعثها من جديد في شكل نقلها نقلة نوعية وأضفى عليها الطابع العربي الإسلامي . ولم يستأثر هؤلاء الأسلاف بوصفتهم الحضارية بل جعلوها رهن إشارة البشرية انطلاقا من آخر قطر بلغه إشعاع حضارتهم وهو بلاد الأندلس . وبحلول هؤلاء الأجداد بهذه الأرض تغيرت معالمها الحضارية ، وانتقلت من حال إلى حال . وعرف الأوربيون الحضارات الإنسانية القديمة بواسطة الحضارة العربية الإسلامية . وعرف الأوربيون نهضة حضارية قفزت بهم وبالبشرية أشواطا بعيدة ، و يعود فضل هذه القفزة إلى الوصفة الحضارية العربية الإسلامية . ومعلوم أن الغربيين يختلفون فيما بينهم بخصوص تقييم أو تقويم هذه الوصفة بين معترفين بها ومتنكرين لها يقفزون عليها قفزا ليربطوا حضارتهم الحالية بحضارة أسلافهم اليونان والرومان دون وجود حضارة عربية إسلامية وسيطة بين ماضي حضارتهم وحاضره . وإذا ما اضطر المنكرون إلى الاعتراف بالحضارة العربية الإسلامية لأن التاريخ لا يمكن استغفاله ، فإنهم يتعمدون بخس دور الوصفة الحضارية العربية الإسلامية . وخلافا للمنكرين والجاحدين، وجدت السائح الكندي وهو رجل تربية تحول من ميدان التربية إلى الميدان الدبلوماسي المتخصص في الشأن الحضاري والثقافي من المعترفين عن قناعة بفضل الوصفة الحضارية العربية الإسلامية على البشرية . والرجل لا زال لم يفهم كيف ضاعت من الخلف العربي الإسلامي الوصفة الحضارية العربية الإسلامية التي أعدها سلفه ؟ كما أنه لا زال لا يعرف هل بإمكان هذا الخلف أن يستعيد الوصفة من جديد ؟ ويبدو السؤالان معا معبران عن عمق الأزمة الحضارية العربية الإسلامية . فالاستفهام الأول بالاسم المبهم " كيف " ينطلق المستفهم فيه من القناعة بوجود وثبوت المستفهم عنه . فالسائح الكندي السائل لا ينفي ولا ينكر ولا يجحد الوصفة الحضارية العربية الإسلامية بل يريد معرفة الكيفية التي ضاعت بها من العرب والمسلمين. و السؤال بحرف الاستفهام " هل " يخامر المستفهم فيه الشك في إمكانية الشيء المستفهم عنه ، وكأني بالسائح الكندي يائس من إمكانية استعادتنا لوصفة أسلافنا الحضارية أو شبه متأكد من استحالة استعادتنا لها ، وأميل إلى أن هذه هي القناعة التي صدر عنها في طرح سؤاله الثاني . وبدا السائح الكندي وهو يطرح السؤالين معا ـ إذا ما صدق ظني ـ وكأنه يشمت بنا وقد ضيعنا وصفة حضارية غيرت وجه العالم ونقلته من طور التخلف إلى طور التطور ، وعجزنا عن استعادتها من جديد. ولم يدر السائح الكندي أنه إنما حرك بسؤاليه جمرا تحت الرماد في عمق قلبي كما هو حال كل عربي ومسلم ينام ويفيق على هذين السؤالين المؤرقين : كيف ضاعت أو ضيعنا الوصفة الحضارية لأسلافنا ؟ وهل بإمكاننا أن تسترجعها من جديد ؟ أما السؤال كيف ضاعت أو كيف ضيعنها فالإمكان الإجابة عنه ، وبوسعنا جميعا ذلك، ولكن السؤال هل يمكننا استرجاعها فلا أظن أن أحدا منا يستطيع الإجابة عنه لأن المدة الزمنية الفاصلة بين فترتنا وفترة ضياع الوصفة منا معتبرة ، الشيء الذي يعني بعد الشقة بيننا وبين عملية الاسترجاع ، وهو مؤشر على عجزنا . وحالنا كحال وارث ورث تركة ثمينة فضيعها ، وإذا ما ضيع الوارث ما لم يشق ولم يتعب في جمعه كان أعجز ما يكون عن استرجاعه لأنه لم يستطع الحصول عليه أول مرة بكده وجهده وعرق جبينه . ومما يجعل الإجابة عن سؤال هل يمكننا استرجاع الوصفة الحضارية لأسلافنا في حكم المستحيلة هو ما نحن عليه اليوم من سوء الحال في كل الآفاق والمجالات والميادين حيث عدنا كما كنا في جاهلية الجاهلين من أسلافنا قبل طلوع فجر الإسلام عليهم حيث جددنا أيامهم وحروبهم وصارت لنا داحس وغبراء وبسوس وفجار... وغيرها كما كانت لهم . لقد ضيعنا الوصفة الحضارية التي أعدها أسلافنا بعد أن خلعوا الجاهلية من رقابهم واستجابوا لأمر هام في رسالة السماء التي بلغها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة الذي خصهم بها ليكونوا قادة البشرية إلى نهاية العالم وقيام الساعة ، وهذا الأمر الهام هو " اقرأ باسم ربك " . ولقد قرأ سلفنا باسم ربهم فأوصلتهم قراءتهم إلى الوصفة الحضارية التي خلصتهم من جاهليتهم ومن جاهلية العالم حولهم . وإن الأمر الإلهي " اقرأ باسم ربك " كان هو مفتاح الوصفة الحضارية الناهضة بالبشرية . وسألت السائح الكندي عن هذا الأمر الإلهي فوجدته يجهله أو يتجاهله ـ وهو ما أرجحه ـ لأشعره بكيف بدأت الوصفة التي لم ينكرها ولم يجحد فضلها على الحضارة الإنسانية ، وهي التي تشهد عليها الشواهد الحية الماثلة التي لا مجال لنكرانها . وأسررت في نفسي ما لم أبح به لهذا السائح الذي جاء ليزداد اطلاعا على الآثار الشاهدة على وصفة أسلافنا الحضارية في مغرب الوطن العربي الإسلامي ، وهو خبير بحضارتنا ، ويعرف كيف يحكم عليها لأنه يفقه جيدا الفروق بين الحقب التاريخية |، ويعرف جيدا كيف يقيم المظاهر الحضارية لكل حقبة خلاف ما يفعل بعضنا حين يقيس القياس الأعرج بين وصفة أسلافنا ووصفة الأغيار في زماننا هذا دون أن يعير أدنى اهتماما إلى اختلال المقارنة خصوصا وذلك تحت تأثير الانبهار والذهول الكبيرين من وصفة الأغيار التي تجعله يلعن أسلافه ليجعل نفسه موضوع سخرية الأغيار ، وكان الأجدر والأولى به أن يلعن تقاعسه عن فعل ما فعله الأسلاف ليأخذ مرة أخرى بزمام قيادة الحضارة الإنسانية ، ويميل بها نحو اتجاه غير اتجاهها الحالي ، وهو اتجاه يفتقر إلى القيم ، الشيء الذي يجعل المادة والتكنولوجيا تستبدان بالإنسان أيما استبداد ، وتحولانه إلى ساحر ينقلب عليه سحره . ولو ظل الإنسان يقرأ باسم ربه لا باسم غيره من الآلهة وعلى رأسها آلهة الأهواء لما صار عبدا للمادة والتكنولوجيا ولسخرهما لفائدة إنسانيته التي كرمها خالقه سبحانه وتعالى وحملها في البر والبحر ، وفضلها على كثير ممن خلق تفضيلا . ومعلوم أن الأغيار أخذوا عن وصفة أسلافنا الحضارية ما يطوع المادة ويسخرها ولكنهم غيبوا ما يخلق هذه المادة ويوجهها لصيانة الكرامة الإنسانية . وأخفيت في نفسي أيضا ، ولم أبده للسائح الكندي أننا طالما لم نتخلص من تقليد هؤلاء الأغيار التقليد الأعمى في وصفتهم الحضارية المادية المفتقرة إلى ترياق القيم التي تصونها من كل انحراف ،فإننا لن نسترجع أبدا وصفة أسلافنا الحضارية. ولقد تنبأ الأغيار منذ مدة طويلة بانحراف وصفتهم الحضارية من خلال تمرد ها المادي ، وجعلوا ذلك موضوع فنهم من خلال الفن السابع حين حذروا من انقلاب السحر على السحرة في أفلام تصور البشر وقد صاروا ضحايا وعبيدا تتحكم فيهم الروبوهات التي صنعوها بأيديهم والتي تنتهي بالتفكير في استئصالهم من الوجود . ولقد كانت هذه الأفلام من الخيال العلمي لكنها كانت معبرة عن هاجس له ما يبر ره ، وربما مع مرور الزمن ستصير هذه الأفلام حقائق ، وما أكثر الروبوهات المستبدة بالإنسان في الحضارة البشرية الحالية . وبعد أربع ساعات من الحوار المتواصل مع السائح الكندي توقف القطار القادمة من مدينة الدار البيضاء بمدينة فاس وافترقنا ،والسائح متلهف لمعرفة ما يرغب في معرفته مما لم يكتشفه بعد من وصفة أسلافنا الحضارية بالعاصمة العلمية ، بينما واصلت السفر إلى شرق البلاد ألوك بذهني لا بلساني سؤالي السائح الشامت ـ كما أظن ـ وأجتر مرارة ذلك كما هو حال المفرط في تركة غالية لا تقدر بثمن . ولم أكشف لهذا السائح أن الفرق بين أسلافنا وبين قومه أن أسلافنا لم يستأثروا بوصفتهم بل جعلوا فضلها يعود على الإنسانية في حين استأثر قومه بوصفتهم بل عقدوا العزم على ألا يتركوا فرصة لنا اليوم للتفكير في استرجاع وصفة أسلافنا الحضارية ، وقد بذلوا قصارى جهودهم ليجعلوننا نسترجع جاهلية أسلافنا قبل بزوغ فجر رسالة السماء التي تضمنت مفتاح التحضر وهو الأمر الإلهي " اقرأ باسم ربك " .وسنبقى في انتظار أجوبة مقنعة عما سأل عنه السائح الكندي.