هل تغرب شمس حزب الطوائف

وينجح العقل المدني في مصادرة العقل الطائفي ؟!

زهير سالم*

[email protected]

يحاول بشار الأسد هذه الأيام جاهدا أن يستعيد أوراق لعبة أبيه  التاريخية . اللعبة التي جعلت الشعب السوري مستعمرة للفرد الظالم المستبد . فخلال نصف قرن من حكم ( البعث ) كسر هذا المستبد كل درجات السلم التي ارتقى عليها .  حتى تخلص الأخ منهم من أخيه ، ثم عادى ابن الأخ ( عمه ) صنو أبيه . وما أن أطلت الثورة على المجتمع السوري حتى عاد البهلوان الذي يظن في نفسه المهارة والذكاء ليحاول اللعب على أوراقه من جديد ، ويقلبها ظهرا لبطن ، ويفتل عقول الممسكين بها بالذروة والغارب ؛ آملا أن يساعدوه على النزول ولو قليلا عن المرتقى الصعب الذي ارتقاه ، بعد أن تخلى عنهم أو تناساهم دهرا طويلا ..

نحن في مقام لا تنفع فيه المجاملة ولابد من مواجهة الحقيقة التي يصر الكثيرون على تجاهلها وهي أن  خيارات جميع الذين يحبون الاستئثار صعبة . وهذا الوطن إما أن يكون لأبنائه جميعا بالسوية والعدل والبر والقسط ، وإما أن يكون لظالم مستبد سيظل يحرّش بينهم ويحرض بعضهم على بعض ، حتى يكون هو الرابح الأخير والرابح الوحيد ..

يتنامى على الساحة الوطنية هذه الأيام إحساس بقلق من استمرار العقل الطائفي في ( غزله ونسجه ) تحت العناوين الكريهة التي عمل عليها طيلة عقود مع هذا النظام . إن استمرار خطاب النبذ والاتهام والاستعلاء الذي نتابعه في أكثر من سياق داخلي وخارجي يستدعي ردودا قد لا يحتملها السياق الوطني . يُقلق المشروع الوطني المدني من أن يقطع الطريق عليه هذا الأسلوب من الخطاب ، و هذه الطريقة من إجراء الموازنات ، وعلاج المقاربات . والأشد إثارة للتخوف هذه النبرة الاتهامية  بالطرق المستمر على سندان الظالم المستبد وبمطرقته نفسها .  ومن أخطر ما يثير الخوف أيضا هو ما قد تستدعيه هذه المواقف من ردود فعل سينوء المشروع المدني الوطني الوليد بحملها .

لقد كان إطلاق اسم ( حزب الطوائف ) على حزب البعث العربي من فعل أمينه العام ( منيف الرزاز ) . إن مجاميع الطوائف أو الأقليات التي شارك كثير من أبنائها في تشكيل ملامح البعث من الخمسينات حتى أواسط الستينات قد أدت دورها  في صناعة هذا الواقع البئيس الذي نعيش اليوم . ولقد انتهى دور هؤلاء الفرقاء على أنحاء متفاوتة  دون أن يسحب ظلاله عن الساحة تماما. نقول هذا ليس للتمترس وراء التاريخ وإنما لكي لا يستمر الخلط بين صناع الواقع وضحاياه . إن الذين صنعوا عالم ما بعد الثامن من آذار سنة 1963 لم يكن ينقصهم حق . ولو نقصهم ما تمكنوا من صنعه . كانت شركة ظالمة قامت على عوامل كثيرة أبرز ما فيها عمليا الرغبة في الاستئثار .

لقد اعتبرت ثورة البعث بحلفائه وداعميه السواد الوطني العام هيئة ( الثورة المضادة ) حسب التصنيف الماركسي ، بينما شكلوا هم امرتكزاتها وداعميها بحساب أو بدون حساب .

 وحين يتردد البعض اليوم وهم يراجعون حساباتهم فهم يدركون جيدا ماذا يفعلون ، وعلى أي مستقبل يقبلون ، وأي مركب يغادرون . الذي يرفض العدل والمساواة يتبجح أمامك بازدراء للآخرين أتريدني أن أقف أنا في هذا الطابور ( الوطني ) الطويل ؟! أتريدني أن اخضع لنفس المعايير  ..؟! ( هو سوقة وأنا ملك ) كما قالها جبلة بن الأيهم من قبل . أستغرب أن بعضهم يفزع إلى اسم ( جبلة ) و( أيهم ) العنصري ويرغب عن اسم ( عمر ) الذي رفع منار العدل . في المجتمع المدني الذي ننشد لن يلطم جبلة جبين أعرابي لأن جبلة ملك ...

وحين نطالب اليوم جميعا بالعدل والأمن والاحترام المتبادل فيجب على ( أبناء ماوية ) أن يقبلوا هذا . يجب أن يقبلوا جميعا أن يكون السواء قاعدة المجتمع المدني. وإذا لم ننجح في غرس عقيدة أن أي ظلم يقع على أي فرد من أفراد المجتمع هو ظلم يقع علينا جميعا فلن ينعم أحد بالعدل ولا بالأمن ؛ لأن الظلم لا يثمر أمنا ولا استقرارا . وإذا لم ننجح في جعل الاعتراف بالأخر الوطني ، ليس على كره وإنما مع الاحترام والحب ، ثقافة متجذرة وعميقة وعفوية في الوقت نفسه ؛ لن ننجح في التأسيس لمجتمع ديمقراطي يزعم البعض أنهم يبشرون به.

ومع أن مشروع المجتمع المدني وثقافته لا تحتمل مصطلحات الأقلية والأكثرية والمركز والهامش فإن من الحق أن نطالب في هذا السياق الوطني جميع الأقليات الطائفية والإيديولوجية والثقافية أن تعترف بالأكثريات المقابلة لها , وأن تتعامل معها بالاحترام الوطني الذي تنتظره منها . وأن تتوقف عن السير في سياق الخطاب الاتهامي الذي استثمرت فيه طويلا مع هذا النظام .

عليها أن تفعل ذلك بنفس الطريقة التي تطالب بها الأكثريات على خلفياتها المتعددة أيضا باحترام الأقليات .

 

 من المقلق أن نستمر في سياق التبشير بمجتمعنا المدني وفي دعوتنا إليه أن نستمع إلى الخطاب الاتهامي الذرائعي في التعبير عن مخاوف لا سياق تاريخي لها . والأكثر إثارة للقلق أن يشعر البعض أن نصيره لما يريد أجندة دولية خارجية .

 يجب أن تكون الثقة المتبادلة هي معبرنا إلى الغد . وإن رصف آلاف البيانات والكلمات لخلق هذه الثقة لن يكون كافيا . وإذا أردنا أن نؤسس لمجتمع الثقة فعلينا أن نتوقف عن سياسات الاستقواء والاستعلاء والاتهام . ولكي نؤسس لمجتمع الأمن علينا أن نقبل بمجتمع العدل . في غدنا الذي نحلم به لن يكون أي مواطن على خلفية أي انتماء أولى بفرصة وطنية من أخيه . إن أي مناورة أو مراوغة أو مؤامرة للحفاظ على معادلة الاستئثار لن تصمد ليس فقط أمام رياح الثورة وإنما أيضا أمام روح العصر ..

وحين يقول مواطن سوري ( أخاف أن أظلم على خلفية انتمائي الديني أو المذهبي أو الفكري ...) سيجيبه الآخر بثقة ( لقد ظُلمتُ على الخلفية نفسها بما جاوز كل حد خلال نصف قرن وقد قررت أن لا يظلم أحدٌ بعدي في هذا الوطن قط..)

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية