وفي حب الحاكم كلمة

ابتهال قدور

[email protected]

الأمر الأكثر احتقاراً لإنسانيتنا هو أن يتم التعامل معنا كقطيع، أو كمجموع، أو ككتلة  ومن الاستبداد القاتل أن توضع البرامج لترويض هذه الكتلة بما يضمن بقاء المستبد، بأيد مطلقة التصرف في الدولة وسط سكون تام لتلك الكتلة...

و تبلغ هذه الكتلة قمة سنم الخواء حين تتجاوز السكون والطاعة والاستكانة، لكي تلج مرحلة الحب...حب الواقع الذي مسح كيانها، وحب المستبد الذي ألغى قيمتها وأهميتها، ومنعها من الجنوح بعواطفها ومشاعرها بعيداً عن شخصه، وأسرته، ودائرته الضيقة...

وإذا صادفت من يعبر عن حبَّه لمجرم مستبد، لا يعرف لماذا، تأكد أنه "الفرد النموذج" الذي عمل النظام على صناعته وصياغته، وبذل لذلك الجهود، وسخر الطاقات، ووجه الخبرات...أن نمنح حبنا لمجرم يعني أننا مازلنا في أدنى مراحل الأمم الفاعلة، يعني أننا في القاع المظلم، يعني أننا لم ندرك بعد أبعاد إنسانيتنا، ولم نستشعر قيمة ذواتنا، ولم نكتشف قوتنا التي ينبغي أن يتوجها العقل و الوعي لكي يكون باستطاعتها تغيير مسارات التاريخ...فالدوران في عالم الأشخاص عبودية، أدنى مراحل هذه العبودية أن نهنأ بكوننا مستعبدين، وأحط صورها أن نُحبّ من يستعبدنا...

العقل يجب أن يكون حاضراً حتى حين نعتقد أننا نُحبّ، والحب الذي يخلو من لمسة عقل هو الهوى، هو ذاك الذي سرقت منه "النون" لتصنع الهوان...وها نحن نعيش الهوان...من صور الهوان أن يتحول الهوى إلى إله فنفقد بذلك البوصلة تماماً، ولا نعود نرى العيوب، ولا نعود نبصر المظالم، ولا نعود نجد حاجة لتوجيه نقد، فتتراكم الأخطاء حتى يستعصي حلُّها...

والأمة التي لا تقوم بنقد ذاتها، وتقييم مسارها، تنزلق بسرعة نحو الفساد والتفتت والسقوط..إنّ النقد الذاتي سمة من سمات المجتمعات النابضة، تلك التي لا مكان فيها لتقديس فرد واحد أحد، معزول عن الشارع والناس...المجتمعات النابضة هي تلك التي يأتي فيها حب الشعب للرئيس بشكل تلقائي سلس نتاج أدائه الرائع، وجهوده المبذولة، ومشاريعه التطويرية، وإخلاصه وتفانيه في خدمة وطنه...لا تلك التي يأتي فيها الحب نتيجة لخَتم طرأ على أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، حتى صرنا لا نرى ولا نسمع ولا نحبّ ولا نميل إلا حيث مال الحاكم !!!

من غير المقبول أن نحب حاكماً أو رئيساً أو مسؤولاً لمجرد أن عينيه ملونتان أو أن جسمه رشيق، أو أن أناقته تروق لنا...تلك بعض أمراض المراهقة، ويبدو أننا نحمل تلك الأمراض التي تجعلنا بعيدين عن اتزان الشعور...أو أننا حُمِّلناها قسراً وغفلةً بفعل خطة خبيثة أتقن الطغاة الفاسدين حياكة خيوطها...

عندما توفيّ أحد مطربي جيلي، تفاعَلَت لديَّ عواطف المراهقة فاغرورقت عيناي بدمعة حزن، بادرني والدي بكلمات مازالت تشكل لدي - على الرغم من صيغتها البسيطة - ستاراً من كل شطط عاطفي : "انتبهي يا بابا ، يحشر المرء مع من أحب"...أدركت من ذلك اليوم أن الحب مسؤولية، وأن مشاعرنا أمانة...

و نكتشف في هذه الثورة العظيمة مأساوية أن تعيش شريحة واسعة من شعبنا الذكي في حال مراهقة...و صُدِمت حين دخلت غرفة واحدة من قريباتي لأرى صورة طاغية الشام تشوه أحد الجدران، وحين سألتها كيف تعلقين صورة مجرم قاتل للأطفال ما شهد العصر مثل إجرامه، أجابتني بسذاجة " أحبه"...فماذا تحبين فيه؟ "لا أدري فقط أحبه"...

وتلك مصيبة أسميها "طيش العواطف" وطيش العواطف ناتج حتمي لعمليات تحييد العقل الممنهجة، فحين كان النظام يهمش أو يعتقل أو يغتال العقلاء والفاعلين والمخلصين ومن امتلكوا وعياً وعلماً و بُعد نظر، كان يرسل رسالة لجموع الشعب تقول: لا تستخدموا عقولكم، وجمدوا طاقاتكم، وأوقفوا طهركم، وانبذوا قيمكم السامية ومبادئكم الراقية لكي تستطيعوا أن تستفيدوا، وتنتفعوا، وتعيشوا بسلام...

على كل من سيؤسس لسوريا الغد، أن يعمل على قضية العاطفة والمشاعر باعتبارها مشروع مصيري ينبغي الالتفات إليه والاعتناء به، إلى أن يدرك كل مواطن أن مشاعره ثروته لا يهبها لأشخاص، ولكن يهبها لأفعال وإنجازات وأداء...يهبها لمن هو أقدر على احترام حقوقه، وفهم احتياجاته وتلبيتها، يهبها لمن يتعامل معه كإنسان حرّ كريم، لمن يحثُّه على استخدام قدراته وطاقاته في أقصى حدودها، ثم يمنحه مكانة تليق بمستوى عطائه...

أُدرك أن للحب وجوه عديدة ولكنني هنا أتحدث عن الحب في شقه الوطني، إن صحّ التعبير، أو أنني أخص الحب الموّجه للشخصيات العامة التي وُكِّلت بمسؤوليات وواجبات تتعلق بأمور وشؤون الدولة والمجتمع في مختلف جوانبه... هذا الوجه من وجوه الحبّ ينبغي أن يكون تُهمة لحامله إن كان بلا رصيد كاف من الأفعال الشريفة البناءة، تُهمة تواطؤ مع الفساد وتحالف مع سياسة الإفساد، وتعاون مع الظلم وتأييد لازدراء الإنسانية...

حين نتمكن من الوصول بالمشاعر إلى هذه الدرجة من الوعي، و ننجح في خلق عاطفة نقدية ترشدنا، حين نتخلص من شعورنا المطلق بأن سلطة الحاكم هي حق مستمر له، وأن حبه واجب علينا، نستطيع أن نقول أننا استطعنا تحرير الإنسان السوري من هوى مرضي أخطر ما فيه أنه يصنع قطعاناً وكتلاً بشرية هي عالة على الحياة...وأجمل ما أختم به كلمات مبدعة لعلي عزت بيجوفيتش : إن عقيدة الطاعة المطلقة للحاكم قادت تدريجياً ومن خلال منحدر مميز إلى انهيار الحضارة الإسلامية.