لماذا نحن في حاجة إلى المواطنة؟

لماذا نحن في حاجة إلى المواطنة؟

أ.د مولود عويمر*

ما معنى المواطنة؟ وما هي القيم المساعدة على تأسيسها؟ وما هي المؤسسة التي تنتج قيمها؟ وماذا تحقق المواطنة للعالم العربي والإسلامي؟ هذه هي أهم الأسئلة التي أحاول الإجابة عنها في هذا المقال للمساهمة في إزالة الصورة المشوشة في الذهن العربي عن المواطنة التي تختلط بالكثير من المعاني السياسية والثقافية المعاصرة.

تحديد المفاهيم

الوطنية تعبر عن الهوية وانتساب إلى ثقافة وانتماء إلى معتقدات وقيم معينة. ويوّلد هذا الانتماء الشعور بالذات والاعتزاز به. والوطنية غريزة فطرية في الإنسان تنمو مع تطور عقله وإدراكه للأشياء والأفكار، وتتخذ أشكالا مغايرة حسب تلك التغيرات الذهنية. وقد قال في هذا الشأن الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهو يعرّف الوطنية وتطور مفهومها عند الإنسان:  "من نواميس الخلقة حب الذات للمحافظة على البقاء، وفي البقاء عمارة للكون، فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته، لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم، وما البيت إلا الوطن الصغير، فإذا تقدم شيئا في سنه اتسع افقه، وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه، فإذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه ونوازعه ومنازعه – شعر نحوهم بالحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته، ولما فيه- كما تقدم- من غريزة حب الذات وطلب البقاء، وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنية."

والمواطن كما عرفه الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، وهو من أوائل العلماء والمفكرين المسلمين الذين اهتموا بهذا الموضوع: "إن ابن الوطن المتأصل به، أو المنتجع إليه، الذي توطن به واتخذه وطنا، ينسب إليه تارة إلى اسمه فيقال وطني ... يعني أنه معدود عضوا من أعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة أحد أعضاء البدن."

فالعلاقة في نظر الشيخ الطهطاوي قائمة بين الإنسان والمكان قبل كل شيء، فليست الفكرة إذن هي التي تحوّل المكان إلى موطن، والفرد إلى مواطن. وهذه الرؤية تتعارض مع الواقع السياسي المعاصر، فالمكان هو الذي يعطي صفة المواطن للفرد المعبأ بالتاريخ والدين والتقاليد وغيرها من رموز الثقافة والحضارة الأصلية.

أما المواطنة فهي تعني "العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع دون تمييز عرقي أو ديني أو لغوي، ويترتب عنها اكتساب حقوق والتزام بواجبات". وهذا الانتماء يولد الشعور بالمسؤولية، ويحرك السلوك نحو تحقيق المصالح المشتركة لأفراد المجتمع في إطار التعايش والتسامح، وان اختلفت أصولهم ومعتقداتهم وآراؤهم وانتماءاتهم. فكل مواطن يمارس الواجب في رحاب دولة تضمن له حقوقه التي يخولها له الدستور أو القانون بشكل عام.

ما هي المؤسسة التي تنتج المواطنة؟

إن تأسيس المواطنة لا تقتصر على عمل مؤسسة واحدة بل هو تضافر جهود الأسرة والمدرسة والمجتمع والشارع والإعلام. فالمواطنة ليست حزمة من الأفكار الجاهزة تلقن وتحفظ في الذاكرة، فلو كان الأمر كذلك لانتشرت المواطنة في العالم بسرعة وكفته الصراعات القائمة في العديد من الدول الإفريقية والأسيوية حيث تسفك دماء غزيرة في بلد واحد، وتهجر فيه الأسر والقبائل، وتدمر القرى والمدن بسبب العنصرية والكراهية... في زمن العولمة والمواطن العالمي.

وبالرغم من تأسيس محكمة الجنايات الدولية في 18 جوان 1998 لمحاكمة مرتكبي الجرائم الإنسانية، ورغم التهديدات الخارجية بوقف المساعدات الاقتصادية والحظر العسكري فإن غياب المواطنة في العديد من الدول هو الذي سمح باستمرار انتهاك حقوق المواطن واضطهاد الأقليات . صحيح أنه تستعمل هذه الاتهامات أحيانا في غير موضعها. ولكن هذه قصة أخرى.

القيم المؤسسة للمواطنة

هناك مفردات عديدة تعبر عن القيم التي تشكل المواطنة أو تنتجها هذه في المجتمع، وسأتوقف هنا عند ثلاث قيم:

 /1الاحترام: ونعني به احترام الأشخاص والمؤسسات العامة. وهو اعتراف متبادل بين الأفراد يصنع انسجاما في المجتمع. ويتعدى ذلك إلى احترام ذاتي وتلقائي للقانون والسهر على توجيه الآخر لفعل ذلك. ويكون تبادل الأفكار والآراء بين المواطنين بالتفاهم دون الحاجة إلى العنف.

 /2التضحية: وهي شعور الفرد بواجباته نحو مجتمعه، فالمواطن يجب أن يركز على أولوية الواجب على الحق، والسهر على نهوض مجتمعه. وقد صدق المفكر مالك بن نبي حين قال: " ليس الشعب بحاجة إلى أن نتكلم له عن حقوقه وحريته بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها، وهذه الوسائل لا يمكن إلا أن تكون تعبيرا عن واجباته." وتكافئ الدول الديمقراطية مواطنيها الذين يمارسون هذا السلوك وتميزهم عن غيرهم، لأن الجزاء من جنس العمل.

 /3التضامن: ونقصد به تحول أفراد إلى مجموعة موحدة ومتفاهمة على مشروع مشترك. فهي علاقة قائمة على مبدأ التفتح على الآخر والسعي من أجل مساعدة الأضعف. وقد حاول الإيطاليون الشماليون الخروج عن هذه القاعدة وذلك بمحاولات عديدة للانفصال عن الإيطاليين الجنوبيين بذريعة أن هؤلاء كسالى ومتواكلون غير أن الدولة الإيطالية واجهت بحزم كل هذه المحاولات الانفصالية لأنها تتنافى مع روح المواطنة والتزاماتها نحو الأسرة الوطنية. وهذه الفلسفة هي التي دفعت الدول الأوروبية الغنية إلى مساعدة الدول الأوروبية الفقيرة كإسبانيا والبرتغال واليونان بعد انضمامها إلى الإتحاد الأوروبي، فأخرجتها من التخلف إلى التقدم والعصرية.

ماذا تحقق المواطنة؟

التطبيق العملي للمواطنة يحقق مجموعة قيم تكرس السلم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والرقي الحضاري، وذلك بعد صناعة إنسان فاعل وفعال في السياسة والثقافة والاقتصاد، وننتقل من "هويات فائضة" -على حد قول المفكر وجيه كوثراني - إلى مواطنة غير منقوصة، ومن أهمها:

 /1الحرية:

ونقصد بها حرية الرأي والاعتقاد، والتنقل والمشاركة في الشأن العام...الخ. وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن " حرية تبليغ الأفكار والآراء هي إحدى الحقوق الثمينة جدا للإنسان. فكل مواطن يمكن إذن أن يتكلم، أن يكتب، أن يطبع وينشر بشكل حر دون أن يسيء استخدام هذه الحرية حسب الحالات التي يحددها القانون" أي انسجام الفرد مع الدولة والمجتمع عبر القانون. فيقول في هذا الشأن الفيلسوف مونتسكيو في كتابه "روح القوانين": " في الدولة أي المجتمع الذي تحكمه القوانين تكمن الحرية فقط في أن يريد الناس فعل ما تجب إرادة فعله، و أن لا يجبروا على فعل ما لا يجب إرادة فعله."

 / 2المساواة:

وهي تشمل التعليم والعمل... والمعاملة المتساوية أمام القانون. وقد لاحظنا في هذه المجتمعات الديمقراطية أن المساواة لا تمس فقط المواطنين، وإنما تطبق على كل فرد يقيم فيها بشكل قانوني. لكن مهما بلغت هذه المساواة في تكريس تكافيء الفرص وتحقيق كرامة الإنسان فإنها لا تصل إلى مرتبة الأخوة التي أقرها الدين الإسلامي لأن المجتمع الغربي ليس همه مراقبة الأخلاق أو نشرها بقدر ما تهمه استمرارية الدولة والحفاظ على مكتسباتها المختلفة، وقد يضحي في سبيل ذلك ببعض الأخلاق والقيم.

 /3المسؤولية:

وهي تتجسد في تعبيرات عديدة منها دفع الضرائب وتأدية الخدمة العسكرية وخدمة المجتمع من خلال العمل المأجور و التطوع. فالموظف أو العامل الفرنسي -على سبيل المثال- يشتغل في العام 4 أشهر لنفسه، و8 أشهر للدولة. وهو لا يشعر بالظلم لأنه يدرك أن ما يؤخذ من ماله يوظف من أجل مصلحته، فهو متيقن أن أولاده يدرسون في مدارس تتوفر فيها كل أسباب الراحة وشروط الدراسة، وفق برنامج مدروس وهادف يشرف عليه معلم كفؤ ومنضبط، ويتغذون في مطعم ملتزم بكل معايير النظافة والصحة...الخ. 

و لاشك أننا سنحقق نتائج إيجابية عديدة إذا حرصنا على التطبيق العملي للنقاط التالية:

- تعميق الوعي بالانتماء للوطن، والحرص على ترسيخ المواطنة، والإقبال على بناء الإنسان المواطن بإرادة سياسية صادقة.

- تنبيه الإنسان العربي والمسلم إلى رسالته ومسؤوليته في خدمة مجتمعه بفعالية وإخلاص في كل مجالات الحياة. وليكن شعاره دائما الحديث الشريف: " خير الناس أنفعهم للناس" أو الحديث الآخر: " المسلم كالغيث أينما وقع نفع".

- تنمية حس النقد والنقد الذاتي والبحث عن الحقيقة وترسيخ الحرية. وقد صدق الفيلسوف كارل بوبر حينما قال إن أعظم ما أنتجه العقل الغربي ليس الكهرباء أو القنبلة الذرية أو الصعود إلى القمر أو غيرها من الاختراعات والاكتشافات التي غيرت مجرى الإنسانية، وإنما هو الحس النقدي الذي سمح بالإبداع والابتكار.

- منع كل دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية أو إنكار حق الأقليات والاعتراف بالتنوع الثقافي وقبول التعددية السياسية، ونبذ كل وسائل القمع والمنع. فسؤال السلطة هو كيف نحكم وليس من يحكم؟ حينئذ نعترف بحق كل مواطن في التعبير عن الرأي والمشاركة في القرار والمراقبة والمحاسبة لتعميق الديمقراطية وترسيخ المواطنة.

وهذا كله يعني أن المواطنة مسؤولية وثقافة وسلوك لتحقيق الأمن والسلم والكرامة والرخاء في المجتمع الواحد مهما اختلفت معتقدات مواطنيه وتعددت ألوانهم وألسنتهم، ولنا في التاريخ الإسلامي الذي عاشت في رحابه شعوب مختلفة وأديان متعددة وحضارات متنوعة عبرة وذكرى.

*أستاذ التعليم بجامعة الجزائر