أشد الكائنات خطراً

فهمي هويدي

يقشعر بدن المرء حين يسمع الخبر، ولا يكاد يصدق عينيه حين يطالع بشاعة الصور. وفي صدمته وذهوله فإنه لا يستطيع أن يخفي شعوره بالازدراء والنفور من أولئك الذين وضعوا الطيار الأردني في قفص حديدي ثم أشعلوا النار فيه، لكي يوجهوا بدمه وجسده المتفحم رسالتهم إلى الملأ. وحين يسترد المرء وعيه فإنه لا يستطيع أن يوقف سيل الأسئلة التي يستدعيها المشهد. بعضها يفتح عينيه على ما جرى السكوت عليه، والبعض الآخر يقلِّب ملفات الذاكرة فينبه إلى ما كان منسيا، ومنها ما يدق الأجراس داعيا إلى التدبر والاعتبار.

وجدت تشابها كبيرا بين واقعة إحراق الطيار الأردني زياد الكساسبة، وإحراق الفتي الفلسطيني محمد أبو خضير. ولاحظت أن بشاعة الجريمة الثانية أفدح. فمحمد الذي لم يتجاوز عمره ستة عشر عاما لم يكن جزءا من أي نشاط عسكري أو مدني، ومع ذلك فقد قتل بصورة أكثر بشاعة لمجرد أنه فلسطيني. والذين قتلوه لم يكتفوا بإشعال النار فيه كما حدث مع الطيار الأردني. ولكنهم سكبوا البنزين في جوفه ثم أشعلوا النار فيه لكي يعذب قبل قتله. الفرق الآخر المهم أن الذين قتلوا الطيار معاذ الكساسبة فئة شاردة يرفضها ويستجهن ممارساتها الضمير العربي والإسلامي. في حين أن الذين قتلوا محمد أبو خضير مستوطنون يحظون برعاية حكومة إسرائيل ويلقون تأييدا من الرأي العام الإسرائيلي . مع ذلك فجريمة قتله لم تحدث ذلك الدوي الذي ترددت أصداؤه عقب قتل الطيار، لسببين رئيسيين أولهما أن قتل محمد لم يتم تسجيله بالصور، والثاني أن الجريمة تمت تحت رعاية دولة لها نفوذها القوي في العالم الغربي، رغم أن الذين أقاموها والذين لا يزالون يديرونها هم مجموعة من القتلة المحترفين.

للأسف فإن الجريمتين تتصاغران إذا قورنتا بالمقتلة الكبري التي يتعرض لها الشعب السوري منذ أربع سنوات. وهي مقتلة توفرت لها كل فنون وبشاعات التعذيب ووحشية الافتراس، لكن كل ما خرج منها لم يقدمها بصورتها الحقيقية التي نجح النظام إلى حد كبير في إخفاء معالمها. أما إذا وسعت الدائرة فسوف تكتشف أن تعذيب المواطنين وقتلهم صار خبرا عاديا في أقطار عربية عدة° وفي بعض تلك الأقطار التي لا أشك في أنك تعرفها فقد أصبح القتل يلقى ترحيبا من جانب بعض شرائح المجتمع، والأدهى من ذلك أنه بات يلقي تبريرا من بعض عناصر النخبة سياسيين كانوا أم مثقفين.

في تحليل المشهد من هذه الزاوية نخلص إلى نتيجتين، الأولى أن الجميع يقتلون ويعذبون، بما يسوغ لي أن أقول إن الإنتاج واحد ولكن الإخراج يختلف من بلد إلى بلد. فداعش أعلنت عن جريمتها وتباهت بها. والآخرون ارتكبوا جرائمهم بقفازات ناعمة وفي مواكب مهيبة رفعت لافتات ورايات تكفلت بتزوير الوقائع والتعتيم على الفعل. وهناك آخرون طمسوا معالم الجريمة وأطلوا علينا بوجوه بريئة وابتسامات عريضة. وهناك فريق رابع لم يمارس القتل بحق مواطنيه، ولكنه استباح الآخرين وأشبع فيهم رغبته في القتل ( لاحظ تقرير التعذيب الأمريكي وممارسات الطائرات بدون طيار في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال).

النتيجة الثانية أن الإنسان أصبح أخطر المخلوقات في الكون. لأنه الكائن الوحيد الذي يعذب ضحيته ويتفنن في ذلك كلما ازداد تقدما ومعرفة. فليس هناك حيوان مهما بلغت شراسته يعذب ضحيته، لأنه يفترسها مباشرة. حتى إذا أفرغ فيها سُمه فإنه يفعلها ويمضي. أما الإنسان فإنه الكائن الوحيد الذي قد يتلذذ بتعذيب ضحيته ولا يكتفي بقتلها.

في إطار التذكير والتدبير عندي نقطتان هما:

* إن الذين أحرقوا الطيار الأردني ينسبون أنفسهم إلى الإسلام. وفي الأجواء الراهنة لن استغرب إذا انتهز البعض الفرصة وصوَّبوا سهامهم إلى العقيدة التي ينسبون أنفسهم إليها. لكنني أحب أن أذكّر هؤلاء وأمثالهم بأن محاكم التفتيش بفظائعها وبشاعاتها التي استمرت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كان يباشرها الكهنة وتباركها الكنيسة الكاثوليكية، ولم تنسب جرائمها إلى المسيحية.

وحين أصدر اثنان من حاخامات إسرائيل (هما يتسحاق شابيرا ويوسف إلىتسور) كتاب «عقيدة الملك (عام 2009 وبررا فيه قتل المدنيين العرب استنادا إلى تأويل نصوص في التوراة فلم توجه المطاعن إلى العقيدة ذاتها. وهو ما يسوغ لي أن أستعيد ما سبق أن قلته من أن النصوص الدينية تظل سلاحا بحدين، بحيث يمكن استخدامها لصالح أنبل الأهداف في ظروف معينة كما يمكن توظيفها لاقتراف أعظم الشرور في ظروف أخرى. والتقييم الموضوعي للخيار الأول أو الثاني يفرض ضرورة التحقق من طبيعة الظروف التي استنبتت السلوك النبيل أو الشرير. وعليه فالمحاكمة الحقيقية والمنصفة ينبغي أن توجه صوب البنية الاجتماعية والسياسية، وليس العقيدة الدينية.

* محور النقطة الثانية هو السؤال: من أين جاء هؤلاء(الدواعش)؟ ردي المباشر على السؤال وثيق الصلة بالنقطة السابقة. ذلك أن هذه النماذج بمثابة إفراز طبيعي لوحشية النظام البعثي في العراق وسوريا الذي غذته سجون الاحتلال الأمريكي في أبو غريب وغيره. ذلك أن القتلة وهم يؤدون دورهم ينسون أنهم يلقنون ضحاياهم دروسا خصوصية تعلمهم أساليب البطش وفنونه، بقدر ما إن ممارسات الأنظمة الديمقراطية تعلم الناس فضائل التسامح واحترام كرامة الإنسان وقواعد القانون. إن شئت فقل إن النظام السياسي يشكل بيئة حاضنة تسهم في تربية المجتمع ونسج قيمه سواء في الاتجاهات السلبية أو الإيجابية. وما تفعله داعش نموذج لسوء التربية التي ابتلي بها المشرق في ظل النظام البغيض والوحشي الذي أقامه كل من صدام حسين ونظيره حافظ الأسد. وهو درس لا تعرف أن أحدا من الطواغيت وعاه أو تعلم منه.