العاقل من يعرف أهون الشرين

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

اليوم  18 / تموز / 2012  بينما الأخبار في كافة المحطات تشير إلى التهاب الوضع في سورية، بلاد تحترق بدون أن يكون لذلك مصلحة حقيقية للبلاد  أو للشعب فلماذا هذه الخسائر إذن ...؟ لماذا يعيش العراق أزمات لا نهاية لها، ألا يستحق الأمر منا البحث عن منبع الازمات، أو جوهر الأزمة وباعثها الحقيقي.

ترى أين يكمن جوهر الإشكالية، فالأمر وإن أختلف في العراق عن الموقف السوري، فهو اختلاف شكلي، ولكن الجوهر متشابه. إذ بتقديري أن الإشكالية الرئيسية العامة هي أن الشعوب في منطقتنا والعالم اليوم لم تعد تقبل بإرادة أجنبية في الحياة السياسية، ونحن لم نعد على أعتاب، بل في قلب ثورة مواطنية / ديمقراطية  ستأخذ اقطارنا العربية ومنها العراق، وربما أقطار أخرى شرق أوسطية غير عربية إلى عصر جديد،  ثم أن الموقف المعاصر والثقافة السياسية في العالم اليوم في مرحلة تداعت فيها امبراطوريات شمولية لم تعد تحتمل الاستئثار بالسلطة كيفما كان وأينما كان. هذه مرحلة جديدة ندعو جميع السياسيين المخضرمين منهم خاصة والشباب، والحركات السياسية أن تستوعب الدروس التاريخية والفلسفية البليغة للثورات العربية وأن تفعل ما يلزم للتلائم مع هذه المعطيات، وهي ليست مسألة مستحيلة، لا مراء ولا جدال ... العالم ومنه أقطارنا في قلب مرحلة تاريخية جديدة.

الاستئثار بالسلطة للفرد أو للحزب عصر أنتهى، سواء كان استئثاراً يجري تحت شعارات طبقية / اجتماعية أو قومية أو دينية أنتهى لأنه يخالف الحياة ويعاكس وعي الشعب وإرادته. فالاستئثار عدا كونه مدخلاً عريضاً رحباً للفساد المالي / الحكومي وللإثراء غير المشروع، فإنه يعني أن فئة معينة تتحكم بالحياة، وأنها تملي على المجتمع بأسره وجهة نظرها وتفرض طريقة حياة سياسية واجتماعية وهو لم يعد مقبولاً، وإن ما يجري هو املاء لسياسة القوة، سيان سواء بطريقة ناعمة مرنة أو فظة، قد تبدأ ناعمة تحت شعارات أئتلاف، جبهة، تحالف، ولكنها تنطوي في الحقيقة على رغبة في الاستئثار، والانفراد. ثم أن سياسة الاستئثار بالسلطة تقود كنتيجة حتمية إلى سياسة مواجهة الاحتجاج الشعبي بالقوة الأمنية أولاً ثم تصعيداً وصولاً إلى استخدام القوات المسلحة، وهي سياسة فاشلة بامتياز سقطت في كل المجتمعات، والباقي منها ينتظر السقوط، وإذا طال انتظار سقوطه فهذا لا يعني أنه سيستمر، بل سيكون سقوطه مدوياً أكثر.

حل الأزمة جوهرياً يكمن في قبول الانسحاب من مسرح السياسة، بل إذا تم الانسحاب اختيارياً فقد لا يكون انسحاب نهائي، بل يبقيه شخصاً كان أم حركة سياسية، لاعباً مهماً في الحياة السياسية، ولكن الاستئثار وبالتالي الدكتاتورية والطغيان تطرح حلولاً أقلها وأكثرها تواضعاً هو رحيل الطاغية. الحل الأفضل هو العودة للشعب. وهذا ليس بعيب، ولا عار، ونحن مواطنون عراقيون والعار هو أن ندع الأجنبي يتحكم في بلادنا، لنعد إلى الشعب، فعندما يقع الفاس بالراس لا يفيد الندم ولا المراجعة، والحكمة كل الحكمة في اختيار الحلول التي تستبعد الكارثة.

لا أعلق اهمية كبيرة على صفقات سياسية لا تعالج الوضع بصفة شاملة، أنا أدعو كل السياسيين العراقيين إلى التحلي بنظرة بعيدة عميقة الغور، وإلى العودة للجذور، أما المعالجات الوقتية السطحية فستخلق الحاجة إلى معالجات جديدة، لا أريد أن أقلل من أهمية أية شخصية سياسية عراقية، فنحن ننظر للمحتوى وإلى ركائز الحلول وآفاقها، ومن هنا ندرك أن الحلول السطحية ستخلق بالطبع نتائج سطحية، والتناقضات في العراق أعمق من أن تحلها صفقات أو تفاهمات كهذه، الأوضاع الداخلية إذا فكر أحد أو جهة بمعالجته بالوسائل السياسية وعبر تفاهمات وتوافقات، فينبغي أن يكون ذلك البحث جدياً، ومقنعاً وعميق الأثر بحيث لا يترك أي خلية مهما كانت صغيرة دون أن يعالجها بحكمة. الإبعاد والإقصاء والتهميش والاجتثاث، واستطراداً القمع الامني أو المسلح  هو آخر ما يمكن أن ينفع في علاج إشكالية مزمنة كإشكالية الوضع في العراق كنتيجة للاحتلال وتواصل تعقيداته.

أي سياسي ذا خبرة بسيطة يدرك تماماً أن العراق سوف لن يشهد تقدماً في أي مجال، لا اليوم ولا بعد قرن، ما لم نتوصل إلى دولة تضمن ولاء جميع المواطنين لها، تضمن قناعتهم ومحبتهم وإخلاصهم، انطلاقاً من قناعة راسخة أن البلاد ملك الجميع بدرجة متساوية تماماً، سوف لن تحصل تنمية ولن نتوصل إلى تقدم علمي، دون زج كافة طاقاتنا لبناء الوطن الذي نحب.

الأفراد زائلون، سوف لن يبقى في النهاية سوى العراق، ومن أجله وله ينبغي أن تتجه الأنظار والعقول، وبالطبع الحلول. فالعاقل هو ليس من يعرف الخير من الشر، بل هو من يعرف أهون الشرين.

سوى ذلك قبض ريح وحرث في الماء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقال جزء من مقابلة تلفازية مع إحدى القنوات العربية بتاريخ 18: تموز / 2012