بين القيادة الراشدة والقيادة الساقطة

بين القيادة الراشدة

والقيادة الساقطة

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من أهم ملامح القيادة الراشدة ما يأتي :

1-  أن يكون ذا مكان ومكانة في قلوب أتباعه .

2-  أن يدرس معطيات الموقف الذي يعيشه دراسة وافية .

3-  أن يفيد مما يحيط به من معطيات .

وقد كان أبو جهل الحكم بن هشام نموذجا للقيادة الساقطة ، فلم يستجب لما أشار عليه أصحابه ، وأصر على أن يقاتل في بدر على الرغم من أنه ليس هناك مبررا للقتال .

وبالعكس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا حيا للشورى ، ففتح صدره لأتباعه ، واستجاب لما أشاروا به ، وآثر السلام على الحرب .

وبقدر توفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خطواته كان سقوط أبي جهل في كل تصرفاته .

وكانت النتيجة كما ينقل التاريخ مصرع أبي جهل فرعون هذه الأمة على يد طفلين صغيرين .

**********

وعلينا أن نتمثل بما حدث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيلمة الكذاب فقد جاء في الأثر :

 " أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقف موقف القوة والحسم في تصرفه مع مسيلمة الكذاب ، الذي جاء هو وبني حنيفة إلى المدينة ، وقادته وقاحته وسوء أدبه إلى أن يردد أمام المسلمين قوله " لو جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته " , ونقل بعض المسلمين للنبي ما يردده مسيلمة ، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى قطعة من جريد النخل , وقال " اسمع يا مسيلمة : والله لو سألتني هذه القطعة من جريد ما أعطيتكها، ولن أتعدى أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله " .

 وأمام هذه المواجهة الصريحة لم ينطق "مسيلمة" بكلمة، وعاد مع قومه بنو حنيفة إلى بلادهم.. اليمامة وما حولها ، وكانوا من أمنع الناس وأقواهم وأغناهم ، وأكثرهم خيلاً ورجالاً ، وسلاحًا ، وزراعة ، وأعلن " مسيلمة " على رءوس الأشهاد من قومه أنه "نبي مرسل " وأن الوحي بدأ في النزول عليه .

 ويروى ابن هشام في السيرة النبوية أنه أرسل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتابًا نصه :

"من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلام عليك، أما بعد: فإني قد أُشرِكْتُ في الأمر معك ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشًا قوم يعتدون " .

ورد عليه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكتاب نصه:

"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".

 وبالنظر في سلوك "مسيلمة" وهو في مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالنظر كذلك في كتابه إليه تواجهنا "شخصية منحرفة" , تحكمها "عقدة التعاظم" التي تفهم النبوة والرسالة على أنهما ملك وسلطان , وسيادة وهيمنة على الأرض، وفي سبيل ذلك تكون التضحية بالأخلاقيات النبيلة والقيم العليا أمرًا لا غبار عليه.

بينما نرى في مواجهة الرسول ـ عليه السلام ـ لمسيلمة وهو في المدينة , ومواجهته له بعد ذلك في رده المكتوب إليه عدة معان وقيم عليا أهمها اثنتان:

الأولى: الصراحة في الحق , ومواجهة المنحرفين والطامعين، والجبارين، دون مواربة أو مصانعة، أو تفريط في دين الله.

الثانية: تجنب اللجاج والجدل ، وخصوصًا إذا تعلق الأمر بقضايا أو حقائق جوهرية واضحة لا تحتمل النقاش مثل : سمو النبوة والرسالة , وما هيأه الله للإنسان في الكون ، وجزاء التقوى . وجزاء الكفران والطغيان والجحود .

 وينتقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى , وتتحول الردة العقدية إلى جيوش وسلاح ، وينهض أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالأمر ، وينطلق خالد بن الوليد إلى مسيلمة ، وتدور معارك من أشرس وأدمى ما عرف التاريخ , وينهزم بنو حنيفة , ويصرع مسيلمة ، وترتفع راية الإسلام من جديد , وتصدق في مسيلمة كلمة الرسول عليه السلام : " ولئن أدبرت ليعقرنك الله " .

 ولا عجب فيما يسلكه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلول المناسبة ؛ فهو القائل عن نفسه " أدبني ربي فأحسن تأديبي " ، والتأديب صفة جامعة تتسع لكل القيم الإنسانية .

لقد حفظ لنا التاريخ صورة القائد الملهم الذي قال فيه رب العزة : " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6 " النجم .

وقوله سبحانه وتعالى : " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) " التوبة .

وقوله عن نفسه : " أدبني ربي فأحسن تأديبي "