مَن يساعده علي الحجز?!

مَن يساعده علي الحجز?!

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

لقد أصبحت الدروس الجصوصية مرضا منتشرا في بيوت المصريين ، بعد أن انحدر مستوى التعليم ، وخصوصا في عهد الزعيم المخلوع حسني مبارك ، وأصبحت البيوت هي الأصل ، أما المدارس فهي الاستثناء ، وهذا ما يجعل الحقائق رأسا على عقب .

ومن الصعب عليّ أن أنسى ذلك اليوم من شهر يونية , كان الجو حارا خانقا , والرطوبة تكتم الأنفاس , وأنا في مكتب موظف كبير بالجيزة لإنجاز عمل خاص بي يتطلب إجراءات معينة , وفجأة دخل علينا واحد من أصدقاء -أو زملاء- الموظف الكبير, ودار بينهما الحوار التالي:

- هيه.. عملت إيه يا «فلان»?

- ولا حاجة.. مفيش فايدة.. عجزت تماما عن «الحجز».. قال لي: لقد تأخرت كثيرا.. ولا مجال للحجز.. العدد «فُل».. كامل.. لا يحتمل أي زيادة..

- طيب يا أخي حاول معه مرة ثانية..

- وثالثة ورابعة.. لعل وعسي.. حتي لو أدي الأمر أبعت له طوب الأرض..

- ربنا معاك.

 وانصرف الضيف.. والفضول يستبد بي, ووجدتني تلقائيا أتوجه بالسؤال إلي الموظف الكبير الذي كان يتحدث إلي ضيفه والأسي يغمر وجهه ونبراته:

- هيّ الشقق دي موقعها فين? وإيه مزاياها حتي يحزنك عجزك عن «حجز» إحداها?

- شقق إيه يا سيدي? لا شقق.. ولا عمارات.. أنا بتكلم عن «درس خصوصي» في الرياضيات عند الأستاذ (.....)

- درس خصوصي?!

- نعم.. وإحنا في شهر يونية.. وبنتي ستكون في العام المقبل في السنة النهائية من المرحلة الثانوية.. والأستاذ معروف بشهرته وتمكنه من مادته.. وجداوله المستقبلية كلها كاملة العدد.

وقصّ عليّ صاحبنا أن هذا الأستاذ «ماشي» في دروسه الخصوصية بطريقة «المجموعات».. المجموعة من عشرة طلاب.. والدرس لا يزيد علي «ساعة», وعلي كل تلميذ أن يدفع بعد انتهاء الحصة مباشرة «ثلاثين جنيها».. يعني ساعة هذا الأستاذ ب«ثلاثمائة جنيه».. وتخرج هذه المجموعة لتأتي مجموعة أخري.. وهكذا.. والعمل من الرابعة مساء إلي الثانية من صباح اليوم التالي.

- ومكان الدروس الخصوصية?!

- الفيلا التي يملكها سيادته.

- وعيون المسئولين..?!

- قلبك أبيض.. أبيض قوي.

- علي كل حال.. ربنا معاك.. ويمكّنك من «الحجز» قريبا إن شاء الله.

***

 هذه صورة تتعلق بالتعليم في بلدنا.. مصر.. مصر المحروسة.. التي أصبحت مصر.. المنحوسة.. المنكوسة.. أقول إنها صورة واحدة.. تتكرر في شتى أنحاء العاصمة.. بل وصلت إلي المدن والقري.. وأصبح «الدرس الخصوصي» هو الأصل.. والمدرسة هي الاستثناء, وأنظر من شرفة مسكني لأري عشرات من السيارات الفارهة ابتداء من الرابعة مساء كل يوم.. وتنزل من كل سيارة طالبة لتدلف داخل الفيلا الواسعة حيث مدرسة المواد العلمية تزاول مهنة «الدروس الخصوصية» بعد انتهائها من عملها الرسمي في المدرسة الحكومية.. ويستمر هذا الوضع إلي منتصف الليل.

 وأخبرني من لا أتهم أن كثيرا من المدرسين أصبحوا من «ذوي الشرحين»: ففي الفصل يشرح الدرس بصورة سطحية لامسة.. أما الشرح الأصيل الثقيل.. فمؤجل «للدرس الخصوصي», ومن عجب أنهم حريصون علي أن يشتهروا بذلك حتي يُقبل الطلاب علي دروسهم الخصوصية.

 إن ظاهرة الدروس الخصوصية تعتبر شهادة ضمنية.. بل صريحة بإخفاق التعليم عندنا. كما أنها تحول القائم بالتدريس من مدرس -إلي «حطام مدرس», وكيف تنتفع الدولة بمدرس يظل يعمل في «دروسه الخصوصية» أكثر من عشر ساعات يوميا? وكيف تستقيم معيشة أسرة تمتص الدروس الخصوصية شطرا كبيرا من ميزانيتها في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة?! بل إن بعض الأسر تبيع بعض أثاث بيتها, ومن الأمهات من يبعن حليهن للإنفاق علي «الدرس الخصوصي»!!

 وبعد ذلك يتحدثون عن مجانية التعليم!! إنها مأساة.. مأساة حقيقية.. دفعت بعض الظرفاء إلي اقتراح يقدمه لدولتنا «الرشيدة جدا» مؤداه: أن تغلق المدارس, وتوفر ميزانية التعليم.. وتوزع الطلاب علي بيوت المدرسين من «غيلان» الدروس الخصوصية..بأجرمعلوم طبعا . وادعوا للسلطان بالنصر.

تلك كانت صورة من صور الدروس الخصوصية، واذكر أننا تلاميذ الأربعينيات من القرن، الماضي لم نكن نعرف للدروس الخصوصية مجالاً أو طريقًا، لأن "المدرسة" كانت تقوم بمهمة التدريس والتربية، على خير وجه

و مع قيام الميمونة سنة 1952م.أصبح للدورس الخصوصية سوق رائجة وتفاقمت الظاهرة بوجهها الدميم حتى أصبح الدرس الخصوصي هو الأصل ، والمدرسة هي الاستثناء .

وخطورة هذه الظاهرة ترجع إلى ما يأتي:

1 ضعف الناتج منها بحيث لا يمثل جزءًا من "المدفوع" فالظاهرة إذن تقوم على الغش والزور والتزييف.

2 تحطيم القوى النفسية والصحية لكل من الطالب والأستاذ.

3 الإساءة إلى الوضع الاقتصادي للأسرة المصرية، فكثير من هذه الأسر تلجأ إلى الاستدانة، أو بيع بعض ما تملك لتسديد المطلوب في الدروس الخصوصية.

4 الإساءة إلى النظام التعليمي في مصر، وتهميشه مما يفقد الطلاب الثقة به، والركون إليه.

ويبقى أهم سؤل مؤداه، ومن المسئول؟ وخلاصة الإجابة: أننا نظلم المدرس لو ألقينا عليه العبء كله، فأنا أعرلف كثيرًا من المعلمين يرفضون بشدة التكسب من وراء الدروس الخصوصية. ويبقى العبء الأكبر والحظ الأوفى واقعًا على الدولة، ووزارة التربية والتعليم بخاصة.

فقد كان جل اهتمم المسئولين منصرفًا إلى الانتشار الأفقي "للعملية التعليمية أي الاهتمام بالكم بصرف النظر عن الكيف، فزاد عدد المدارس والفصول زيادة رهيبة، وأصبح في الفصل الواحد ما لا يقل عن خمسين تلميذًا، وقد كان من قبل لا يشغله إلا عشرون كحد أقصى.

كما أخضعت الدولة نظامنا التعليمي لعدد من التجارب ثبت إخفاقها كلها لأنها لم تعتمد على منهج علمي مدروس لهذه التجارب.

هذا زيادة على "التخريج الآلي" للمدرسين والسماح بالتدريس لمن لا يملك مؤهلاً تربويًا. حتى أصبح الحديث عن "جودة التعليم" نكتة سائدة، ودفع أحد خبراء التعليم في مصر إلى القول: "هو فين التعليم حتى نحكم عليه بالجودة أو عدمها؟".

والمسألة على أية حال أكبر من أن تشخص في سطور أو صفحات، فهي في حاجة إلى دراسة واعية مخلصة، وواقعية في الوقت نفسه، ومتابعة جادة من خبراء مشهود لهم بالحنكة والخبرة والموسوعية.