هل يبقى المخيم رحلة من الجحيم إلى الجحيم؟

هل يبقى المخيم رحلة من الجحيم إلى الجحيم؟

د. سماح هدايا

معرفة بيني وبينها نشأت في زمن تأزم الثورة.لاجئة سوريّة مناضلة في المخيمات التركيّة. لديها قصة مأساوية، ككثيرين من النازحين، وعايشت فجائع قصص بشريّة كثيرة؛ لكن الثورة والمأساة، جبلاها بنار التحدي والمقاومة؛ فغدت مناضلة شرسة تدافع عن حقوق شعبها في الشتات. إنها واحدة من عشرات الآلاف. تستدعيك تجربتها وبطولتها لتعيد التفكير في مفردة المخيم وصورة اللاجئين، الذين اعتدنا سماع حروفها، ولم يكتشف إلا بعضنا، حقيقة الصورة وتفاصيلها.

اللاجئون ليسوا ملائكة وليسوا شياطين. هم بشر مثلنا، لكن بلا وطن، وسقف، وأمان، وشعور بالكرامة. يكبر في بعضهم الخير ليصير أمثولة، ويكبر في بعضهم الشر ليصير قضية تستدعي التدخل والنّجدة قبل أن يستفحل الأمر ويصبح حالة تشوّه واقع السوريين في المخيم. هؤلاء اللاجئون يحتاجون إلينا، لا لنقف ونأخذ معهم الصور للذكرى، ولا لنرثي حالهم، ونبكي عليهم، ونتسوّل باسمهم الصّدقات، ونزورهم، وكأنّنا في رحلة للتسلية في مخيم صيفي. يريدون منّا المساعدة والدعم وأخوّة الشعب وصداقة المخلص الذي يقدم لهم المستطاع. إنهم يعيشون اغترابا وحرمانا واشتلاعا وترحالا في تجربة قاسية شديدة الصعوبة.

اللاجئون السوريون عشرات الآلاف, وفد تجاوزوا في دول الجوار المائة ألف. وهناك من يقول أن في الأردن وحدها ما يقارب المائة ألف. وعند ذكر عدد كبير كهذا، لابدّ أن يستحضر الذهن صورة سيئة لوضعهم، خصوصا عندما يكون اللاجئون في بلد غريب اللغة والثقافة.

هؤلاء، في الأغلب، مفجوعون هاربون من القتل والاعتقال والإبادة. يحملون صدماتهم ومشاكلهم واحتياجات كثيرة. بدءا من الطعام والشراب والمأوى والملبس، إلى الأمان والحماية والاستقرار، وانتهاء بالتعليم والثقافة والتربية. والأهم إحساسهم بنقص الكرامة. ويتحوّلون في مستنقع الإقصاء والشتات إلى جماعات بلا مؤسسات ولاعمل، يشبهون البدو الرّحل، لكن، من دون أن يملكوا حق الترحال بحثا عن الكلأ والماء والزاد. ولا شرعية اجتماعيّة مرجعيّة وقانونية تنظّم أمورهم، بل ينظّمون وجودهم وفق الشروط القاسية التي يمليها واقع المخيم. معرّضون لأن تنتشر فيهم الأمراض والأوبئة، ويحتاجون لدعم يومي كبير، خصوصا في وجود الجرحى والمصابين، وفي افتقارهم إلى الظروف السليمة للغذاء والصّحة.

أطفالهم ومراهقوهم معرّضون للانحراف والتهميش بسبب غياب فرصة التعليم والتربية المدرسية والتثقيف المنهجي، حتى بالشروط الدنيا، وقد يتفاقم الأمر وتتفسخ الأمراض الاجتماعية نتيجة الحرمان المتواصل وظروف الشقاء وغياب الدعم التعليمي التثقيقي وفرص التشغيل الكريم، وقد يستغل أصحاب النفوس المريضة في داخل المخيم وفي خارجه عوزهم واحتياجهم وطبائع الانفلات نتيجة غياب الرقابة والرعاية المؤسساساتية، مما يؤدي إلى الانحراف.

اللاجئون عرضة للتفكير المتطرف الطائفي والعنيف نتيجة ماعانوه وماواجهوه على أيدي عصابات النظام وشبيحته وأمنه، فالمتضرر عندما لا يلقى رعاية نفسية وتربوية وإرشاديّة، يرتد إلى وعيه الغريزي ضدّ هوية الذين قتلوا عائلته وأهله وهجّروه، ولأن تراجع المستوى التعليمي يتواصل، تتراجع قيم الثقافة والفكر والوعي الوطني.

فماذا تقدم قوى المعارضة بمختلف أطيافها لهؤلاء؟ ..

لن تكفيهم الصدقات والتبرعات، ولن تلبي مطالبهم زيارات الفرجة والتّعاطف. لابدّ من عمل ميداني مؤسّساتي يسعفهم ويلبي احتياجاتهم الكثيرة. فأين أحزاب المعارضة وقياداتها من هذا الأمر؟؟؟ .هناك جمعيّات خيريّة تعمل؛ لكنها لاتستطيع وحدها تقديم ما يكفي؛ العمل معاللاجئين ليس ترفا، بل واجبا لأجل الشعب، ولأجل سوريا الغد، وهم الذين دفعوا الثمن الفادح في معركة تحرير سوريا، بنيّة وقصد، أو بالمصادفة. برضى وطوع، أو بالجبر ونتيجة الهرب والنزوح خوفا من معركة الإبادة، وطلب العيش. ليسوا جميعا أصحاب مواقف سياسية ونضالية، ففيهم الذين يبحثون عن فرصة للعيش وحاجة إلى إيواء، لكنهم شعب سوري نازح.

فماذا سنقدّم للمخيم: للمعاقين جسديا وعقليا؟ . للعجائز والمقعدين؟ . لرعاية المرضى والمعتصبات والنساء الحوامل والأطفال والمولودين الجدد؟. للتعليم والتثقيف والتربية حتى نحمي مستقبل الأطفال واليافعين؟ للحالة الصحية، خصوصا، في ظلّ ظروف تغذية وصحة تشجع انتشار الأمراض المتنقلة والأوبئة؟ . كيف نمدّهم بدعم وغوث اجتماعي ونفسي، وبخطط ومقترحات قابلة للتنفيذ، تساعدهم لتنظيم أمورهم في وسطهم الاجتماعي والمكاني، والاستفادة من كل المكونات بشكل إيجابي؟. وبحلول للمشاكل البيئية: نظافة المياة والطعام أثناء التخزين والتوزيع. التخلص من النفايات والقمامة وحفر التصريف والمستنقعات ومكافحة الحشرات الضارة والقوارض، التي قد تسبب أخطر الأمراض؛ مثل الطاعون والكوليرا. احتياجات كثيرة، ولعلّ أكثر ما يقلق هؤلاء هو الحالة الأمنية؛ فالعصابات الشبيحة امتداد اجتماعي يصل إليهم، ولعناصر الأمن اختراقات كثيرة.

تركيا ليست وحدها المسؤولة عن دعمهم، ولا الجمعيات الخيرية والأمم المتحدة، بل المجتمعات السورية في الخارج، وبالتحديد مؤساساتها الإغاثية والمدنيّة وأحزاب المعارضة وقواها المختلفة، وجمعيات حقوق الإنسان. المعارضة السّوريّة تموّل اجتماعات سياسية كثيرة في فنادق ضخمة، فلماذا لا تحوّل بعض هذا التمويل إلى المخيمات، وترسل لجان العمل الطوعي وتفتح باب الخدمات التطوعية الإغاثية في المجالات النفسية والإرشادية والتعليمية والتربوية والطبية والصحية والغذائية، وتنظّم عمليات التطوع لإغاثة هؤلاء في أزماتهم. ولابد من تنظيم عمليات التطوّع بشكل فعال، يتجاوز الفردية إلى المجتمعية والجماعية الممنهجة.