رأفة بأرباب المعاشات

الطيب عبد الرازق النقر

رأفة بأرباب المعاشات

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

المعاشي الذي اتضعت رُتْبتهُ، وسقطت منزلتهُ، بعد التقاعد نفهت نفسه،

وتقوضت روحه، جراء شره النفوس، وضياع

القيم، وموت الضمائر، فرغم قناعته بالقليل، وتبلّغه باليسير، يجد من

استنفذ وسعهُ، واستغرق مجهودهُ، في خدمة هذا الوطن الغالي، نفسه قد

أعيتها قوافل الطامعين، و اشتدّ عليها أذي الحادبين على راحة أهل الحل

والعقد، الفئة المهفهفة التي تخطر في مطارف النعيم، وتأكل في صحاف الذهب،

فالمنعمين الذين يرفلون في دبياج البذخ، ويغرقون في بهرج الدنيا، وفراهة

المركب، هم من يتحكمون تحكم الأرباب، ويتصرفون تصرف السادة، في مال من

تقدمت سنه، وتقهقرت صحته، ثم تدعوا في صلف لرفع الدعم عن المحروقات،

والحل الناجع يكمن في انتهاج سياسة التقشف، والتقليل من مخصصات

الدستوريين الذين أوشك عددهم أن يضاهي تعدادالشعب برمته.

والمعاشي الذي نقض الدهر مرّته، وألان عريكته، وأوشك قاربه أن يبلغ

الساحل، يجب أن ينال نصيبهُ الأوفر، وقسطه الأجزل، وحظه الأتمّ، من

التقدير والاحترام، فقد أمضى حقباً جابه فيها نفحات القر، وواجه لفحات

الهجير، حتى يصل لمقر عمله، وهناك يقاسي التعب، ويعاني النصب، ويصبر على

الساعات الطوال التي يتفصد فيها العرق من جبينه، والإجهاد في ذهنه، ليحوز

في خاتمة الشهر على قراريط تملأ حواصل زغابه بالحصى والتراب، والدولة

صاحبة القوة التي لا تُضام، والقدرة التي لا تُرام، يعيش أطول الناس

مصاحبة لها، وأقدمهم عُشرة، مغموط الحق، مخضود الشوكة، لأن بعض أقطابها

انطفأت في أفئدتهم النور، وأوشكت ضمائرهم أن تفارق الحياة، تلك الضمائر

التي أغلظها الورق المالي الصفيق، أولت صيحات من يقرأعليك كتاب المأسي،

ويعيد عليك ملف الأشجان، وقر المسامع، وسدر العيون، وتبلد المشاعر، فرغم

علمها الغزير بأن العمل ميسور للقادر، والأرزاق تترى للحي، نراها تحجب

الزاد رغم شحه وقلته عن أعلام النبل، ورموز التضحية، الأفذاذ الذين

حنكتهم التجارب، وعجمتهم الخطوب، ترهقهم الأم المشبل، والظئر العطوف،

بقرارتِ نصبتها في طريق شائك تحفُ به مواضع الزلل، وكان حرياً بها أن

تسعى لنيل مسرتهم، وحصد محبتهم، لأن أياديهم البيضاء التي حملت الكل،

وأكسبت المعدوم، لن تعروها آثار النسيان، أو تشوبها أعنة الغفلة، والأمر

الذي لا يتخالجني فيه شك، أو تعتريني فيه مرية، أن السودان المجبول على

الوفاء يتوق لليوم الذي يرى فيه تلك العصبة من أبناءه قد ضُمدت مُهجِهم

القريحة، وشُفيت أفئدتهم الجريحة، وهذا لعمري لن يحدث إلا بصرف مستحقاتهم

عقب انتهاء خدمتهم، وبمنحهم رواتبهم القليلة التي لا تقيم الأود في

ميقاتها، وبتذليل كل الصعاب التي تكتنف طريقهم حينما يتوجهون صوب ذلك

المبنى الفسيح الأركان، المتين البنيان، وعلى الولايات التي بدد فيها

المعاشي ريعان شبابه، وخصب كهولته، أن تعطى المعاشي حقه كاملاً غير منقوص

والا تعمد على تجزئة البديل النقدي والترحيل، فما هي الثمرة التي يجنيها

المعاشي من مال متقطع لا يأتي إلا بعد مشقة وعنت، وركض دؤوب بين أروقة

الدواوين.