تأملات في الدين والدولة

تأملات في الدين والدولة

الدستور – والمواطنة – والهوية - والأقليات

زهير سالم*

[email protected]

كثيرا ما نسمع كلاما مثيرا ينسب إلى الإسلام ، أو إلى الحركات الإسلامية ، أو إلى الإخوان المسلمين. كلام مصنوع في عقل صاحبه لا يمت إلى الحقيقة والتاريخ بصلة . مشكلتنا على صعيد الأمة العربية أن بعض النخب تعرف عن روسو ومونتسيكيو وعن هوبز أكثر مما تعرف عن مفهوم الدولة المدنية التعاقدية التي أسس لها الإسلام العظيم ..

 المقاربة الأولى تطرح السؤال عن شكل النظام السياسي الأمثل الذي يقدمه الإسلام أو المسلمون قي القرن الحادي والعشرين؟ هذا السؤال يوازي سؤالا عن وسيلة النقل الأمثل التي يفضل المسلمون أن يسافروا عليها لأداء مناسك الحج أو للقيام برحلة سياحية أو تجارية !! وربما هناك من يتصور أن هؤلاء المسلمين لأسباب ( دينية !! ) يفضلون السفر على الجمل أو سيرا على الأقدام ..

إن ( الدولة الحديثة ) ، كمعطى من معطيات تطور الفكر الإنساني ، في أرقى تجلياتها ، هي الشكل الأمثل الذي يتمسك به الإخوان المسلمون لبناء الدولة في أوطانهم. إن أي خصوصية شكلية لا ينبغي أن تتجاوز حقيقة تأهيل أي إنجاز تكنولوجي ليتحرك على الأرض العربية بطريقة مكافئة ..

إننا حين نتحدث عن تمسكنا بشكل الدولة في اعتمادها المواطنة أساسا للحقوق والواجبات ، وفي قيامها على السلطات الثلاث المستقلة بعضها عن بعض ، واعتمادها على دستور مدني يعبر عن إرادة أبنائها الجمعية هذا على صعيد النظم السياسية . أما على مستوى تاريخ الأفكار فإننا مضطرون أن نذكر أن فكرة العقد هي بداية إسلامية بامتياز، وأن انفصال السلطة القضائية عن التنفيذية مما تعج به كتب السياسات الشرعية ، وأن فكرة التداولية كانت من صلب ما قامت عليه الخلافة الراشدة في عصرها الأول ..

وحين نستعمل في السياق مصطلح ( الخلافة ) أعتقد أن هذا المصطلح مصطلح زمني اتفق عليه المسلمون بعد تشاور منهم لاختيار وصف لرئيس الدولة الذي يحكمهم . مما يجعل تعلق بعض المسلمين به اليوم تعلقا بلقب تاريخي ارتبط في أذهان البعض بالوحدة وبالقوة وبالعزة. أظن أن أي عاقل يستطيع أن يدرك أن هذا الارتباط غير مطرد حتى على المستوى التاريخي ، وغير لازم شرعا على المستوى المستقبلي ..

في الدين والدولة ...

ابتداء يرفض أصحاب المشروع الإسلامي مشروع الدولة ( الدينية – الثيوقراطية ) . ويعتبرون كذلك أن من الخطأ البالغ اختصار مفهوم الشريعة الإسلامية بقانون العقوبات أو بقانون الأحوال الشخصية . وهذان الميدانان لا يشكلان 10 / من جملة فصول الشريعة الإسلامية ، التي هي قواعد قانونية عامة . لا نرى أن هذه العجالة تصلح لمعالجة ما يتعلق بقانون التشريعات العقابية الإسلامية ( المانعة - الزاجرة ) . ولا قانون الأحوال الشخصية الذي يسمح نظيره في العالم الحر للمتوفى أن يوصي لكلبه ويحرم أولاده وبناته ، أو أن يورث من أبنائه من يشاء ويحرم من يشاء . وخلاف هذين الميدانين فنحن نتحدث عن قواعد قانونية عامة هي جزء من القانون المدني العام.

وحين نتحدث عن دولة مدنية بمرجعية دينية أو بمرجعية أخلاقية فإن هذا ما هو حاصل اليوم ، بمعنى ما ، في كل دول العالم . قد يكون ظل المرجعية في أرض النبوات أوضح ، وقد يكون التباين بين الجماعي والفردي في مجتمعات شديدة المحافظة أوسع . وحتى عندما يتقدم أصحاب المشروع الإسلامي بأنهم سيجعلون من صندوق الاقتراع جسرا تعبر عليه كل التشريعات يواجهون بعنوان غريب عن السياق الديمقراطي ( دكتاتورية الأكثرية ) !! ولكن الإجهاض – وهو فعل أخلاقي – ما زال محظورا في كثير من دول الغرب عبر صناديق الاقتراع ، ولا يطلق على تشريعه دكتاتورية الأكثرية . في بريطانيا هناك قوانين شديدة الصرامة لبيع الخمور ولتعاطيها ولأماكن شربها ، بل ولبيع علب الدخان وأخيرا لأماكن التدخين وكل ذلك لا يشار إليه على أنه دكتاتورية الأكثرية . ولو أرادت حركة إسلامية أن تطالب بمثل هذا في بلادها لقوبلت بسيل من التهجمات والأوصاف التي تشبه القذائف البيولوجية والكيماوية غير المحرمة بحقهم ..

لا يخفى أن التباين بين الفردي والجماعي يطرح نفسه بإلحاح اليوم على أجندة حملة المشروع الإسلامي. في دولة أو مدينة معولمة كعمان أو دمشق أو القاهرة لا بد من تفكير بسقف أكثر عملية للحريات الفردية وللحريات الاجتماعية منها بشكل خاص.

نعتقد أن حجم التوافق بين بنية الدولة الحديثة وبين بنية الدولة المدنية بمرجعيتها الإسلامية هو الأكبر وهو الأصل . ولكن هذا لا يلغي أن المفارقات القائمة بين البنائين أو المرجعيتين الفردية والجماعية سيظل حاضرا . وسيظل مطلوبا من فقهاء الاجتماع الإسلامي أن يكونوا قادرين على استنباط أفضل من وثيقة المدينة المنورة فقها ينتمي للعصر الذي نعيش فيه . ومن حالتها الاجتماعية التي كانت سائدة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ونفسه ...

الأقليات والمواطنة ....

إن الإصرار على طرح المزيد من التفصيلات - على سبيل الامتحان - على أصحاب المشروع الإسلامي حين يتقدمون بمشروعهم عن الدولة المدنية الحديثة لا يوحي بالثقة بل يقوم على موقف اتهامي ذرائعي ومسبق !!

لقد حفظت الدولة المسلمة بعناوينها المختلفة محتويات هذا الوعاء البشري على مدى أربعة عشر قرنا . نقول أربعة عشر قرنا ليس على سبيل الخطأ لأن القرن الخامس عشر الهجري أو العشرين الميلادي وإلى يومنا هذا كان قرن العلمانيين المتغربين العرب بامتياز .

لا أحد يستطيع أن ينكر أن ثمة أخطاء وقعت عبر تاريخ المسلمين الطويل وكان ضحيتها أفرادا أو جماعات من الأقليات ولكن ليس دائما على خلفية كونهم كذلك . ولكن أحدا لا يستطيع أن يزعم أن جريمة بحجم الهولكوست النازي قد وقعت على مجموعة بشرية في تاريخ المسلمين . وكذلك لا أحد يستطيع أن يزعم أن دولة من دول المسلمين بهويتها العامة و اختلاف درجات التزام حكامها وعدالتهم المتفاوتة قد شهدت مثيلا لمحاكم التفتيش بمرجعيتها الكهنوتية ، وهيكليتها المعترف الرسمية ، وأساليب تصرفها المثيرة للاشمئزاز. حتى ما قيل عن مجازر تركية ضد الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى فقد وقعت هذه المجازر بعد الانقلاب العلماني على الدولة العثمانية في عام 1911 الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد آخر سلطان عثماني صاحب قرار عملي .

عندما يفكر بعضنا اليوم بالحقوق الإضافية التي يتمتع بها أبناء الأقليات في العالم العربي لعله يتمنى – على مستوى الحقوق – أن يكون واحدا منهم . على مستوى عالم متحضر كما على مستوى محلي ثمة سؤال يدور في عقول وقلوب السوريين جميعا لو أن هذا الذي يقع على أبناء سورية منذ عام وقع على أبناء أقلية من الأقليات ولنقل أنه وقع على المسيحيين أو على العلويين من قبل ما يطلقون عليه الأكثرية فهل كانت المواقف الدولية ستتسم بهذا البرود أو بهذه البلادة ؟!

نحن نُدعى إلى الكتابة دائما عن ضرورة اندماج المهاجرين العرب في الغرب في مجتمعات المهجر ، ندعىى للمشاركة في ورشات عمل عن ضرورة الاندماج الاجتماعي والثقافي في مجتمع الأكثرية المدني، فإذا تحدثنا عن ذلك في بلادنا اتهمنا بأننا نريد أن نذهب بحقوق الأقليات وأن نطمس وجودها ..!!! في بلادنا فقط المطلوب من الأكثرية أن تتنازل عن هويتها و تبقى بلا لون ولا طعم ولا رائحة لكي لا تكون متعصبة أو منغلقة دينيا أو عرقيا أو مذهبيا بينما عليها في الوقت نفسه أن تقر وتحمي وتصون كل خصوصيات أصحاب الخصوصية !!!

اليوم يُطالب أبناء المجتمعات العربية بالانفتاح على..... والاعتراف ب...... .ويتهمون برفض الآخر ونبذه وغمطه ولكن هل هناك من يقبل بإحصاءات دقيقة وشفافة عن واقع توزيع السلطة و الثروة والفرصة في وطننا لمعرفة من هو الشقيق المدلل الذي يذهب في هذه الأوطان أكاد أقول بكل شيء . وأرجو ألا يرد علي أحد الكلام فيتهمني بأنني أدعو إلى أي شكل من اشكال المحاصصة الطائفية . قال رجل لسيف الدولة وقد اتهمه بسرقة قصيدة شاعر آخر ، قال السارق الظريف : لعله من توارد الخاطر وقد يقع الحافر على الحافر فأجابه سيف الدولة : أمن الأول إلى الآخر ....

إن العدل الاجتماعي كما العدل السياسي هو من بعض مطالب ثورات الربيع العربي . كثيرون يطالبون بتطمينات لإعادة الاصطفاف ، ولكن هل التطمينات المطلوبة هي في سقف العدل الوطني أم في أفق الحفاظ على المكتسبات المنتزعة تحت الكثير من العناوين على خلاف ما تفرضه شرائع السماء وتقتضيه قوانين الأرض.. ؟!

 وحقوق غير المسلمين :

حسنا سأشير إلى أمر واقعي مقارن نسبة الأشقاء الكرد المسلمين في سورية توازي تقريبا من حيث العدد نسبة الأشقاء المسيحيين. في سورية تعطل الدوائر الرسمية والمدارس في يوم ميلاد السيد المسيح وفي رأس السنة الميلادية وفي يومي الفصح حسب الكنيستين الغربية والشرقية – ونحن لا نذكر هذا للاعتراض - ولكن ليس هناك عطلة في يوم النيروز الذي يمثل عيدا للطبيعة أو لرأس السنة عند الإخوة الكرد..!!! في سورية يختص المواطنون الأرمن بمدارس خاصة بهم يتعلمون لغتهم وثقافتهم وهو ما لم يحصل عليه الكرد أو الشركس أو التركمان المسلمون مفارقات مطروحة للتأمل فقط . نحن حين نتحدث عن حالات تفضيلية إنما نطالب بتعميمها وليس بتقليصها .

على مستوى الواقع القائم في سورية يطالب بعض المسلمين بحقهم في الحياة المنتهك بالقانون 49 / 1980 / وبما يوفره العالم لبشار الأسد من الحق في الذبح والقمع والانتهاك..

هل يجب أن تكون التجربة السورية بأبعادها الواقعية درسا تاريخيا ليس للشعب السوري وحده بل لكل شعوب المنطقة . ..؟!

ومع ذلك نعتقد ..

أن بناء الدولة الحديثة التي تستمد قوتها الإبرائية من البنية الدستورية والقانونية و ليس من المؤسسة العسكرية أو الجهاز الأمني ربما سيكون كفيلا بنقل دولنا ومجتمعاتنا من طور إلى طور..

لا أحد يستطيع أن يتبين دور المؤسسة العسكرية في صناعة النظام السياسي أو في دعمه في بريطانيا أو في ألمانيا أو في فرنسة ولكن هذا الدور حاضر بشدة في تركية وفي الباكستان وفي مصر الثورة وهذه القوى هي القوى الفاعلة مباشرة في بلد مثل سورية حيث لا قيمة لحكومة ولا لسلطة تشريعية ولا لسلطة قضائية ..

إن المواطن المتخوف على ذاته وعلى هويته وعلى مستقبل أجياله لا يمكن أن يفكر في الإطار المفتوح .

لو كان لدينا في سورية بناء دولة مثل النظام البريطاني لما كنا في حاجة أصلا – مثلنا مثل الشعب البريطاني – إلى دستور مكتوب نحتمي به لحماية الحقوق وصون الهوية ..

محاولة الاحتماء ببعض مواد الدستور والإصرار عليها أليست تعبيرا عن مخاوف تساور السواد الوطني ولاسيما بعد التجربة المرة التي عبر عنها منيف الرزاز والتي ما يزال الشعب السوري يدفع ثمنها من دم أبنائه وأعراض بناته. لقد كان ما مارسه الرزاز والبيطار والحوراني وغيرهم لعبة هواة . بل كان أشنع أثرا في تاريخ المنطقة من كارثة السابعة والستين بل كانت تلك الكارثة بعض ثمرات لعبتهم الغبية وليعذرنا الأصدقاء..

في ظل بنيان دولة قوية لا يتسلط عليها فرد ولا زمرة ستكون الأبواب مفتوحة أمام جميع المواطنين ليقدموا أفضل ما عندهم لخدمة أوطانهم بغض النظر عن انتماءاتهم الثانوية في إطار الانتماء الوطني الذي يجب أن يتقدم على الصعيد المدني على كل شيء ..

ولكن لن نستطيع بناء هذه الدولة إلا بكثير من الحذر وبكثير من الصبر والأناة..أعتقد أن بعض المثقفين السياسين يهجمون بشعوبنا على النتائج دون التبصر بمخاطر الطريق ..

لقد كان النصف الثاني من القرن العشرين قاسيا على شعوب منطقتنا في الجزائر وفي تونس وفي ليبية وفي السودان وفي مصر وفي سورية والعراق .. لقد كتب عبد الرحمن الكواكبي منددا بالاستبداد التقليدي وثرنا عليه منذ الحرب العالمية الأولى لنقع في فخ الاستبداد الثوري الإيديولوجي الذي لم نعد نجد طريقة للهرب منه ..

امتلاك الآليات الأولية لمشروع الإصلاح سيجعل جدلية الإصلاح هي محط الأمل . جدلية الإصلاح هي التي ستجعلنا نرقى في سلمه مرقاة بعد مرقاة أما الحلم بالقفز إلى القمة بقفزة واحدة فما على الحالمين من حرج ..

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية