"شارلي إيبدو" محطة جديدة لسقوط الإنسانية

"شارلي إيبدو"

محطة جديدة لسقوط الإنسانية

م. عبد الله زيزان

[email protected]

الضحايا من فرنسا إلى سورية

ربما لم يتمكن الكثير من السوريين متابعة أحداث "المجزرة" التي وقعت في فرنسا في السابع من كانون الثاني الجاري، وراح ضحيتها 12 فرنسياً بين صحفي وشرطي، وذلك لانشغالهم بالعاصفة الثلجية التي عمت سورية ودول الجوار، فقد كان جُلّ اهتمام السوريين في هذه الأيام هو تأمين بضعة ليترات من المازوت، أو القليل من الحطب، أو حتى مجرد أغطية تقيهم البرد الشديد، وتبعد عنهم وعن أطفالهم شبح الموت برداً وجوعاً وحسرة على حال العالم المنافق...

فمنذ أن وقعت أحداث الصحيفة الفرنسية "شارلي إيبدو" ارتقى أكثر من 36 شهيداً على أقل تقدير بسبب الثلوج والبرد الذي عصف بالسوريين في الداخل وفي مخيمات اللجوء بلبنان، منهم 24 طفلاً، وذلك فقط ما أحصته منظمات حقوق الإنسان، والعدد يزيد على ذلك بكل تأكيد...

اثنا عشر فرنسياً لقوا مصرعهم بظروف غامضة، لن نخوض بغموضها، فقد تكفل بذلك الكثيرون، بدءاً من آلية تنفيذ العملية وصولاً لقتل المشتبه بهم، لتموت معهم أسرارهم، ويبقى الباب مفتوحاً للتأويلات والتفسيرات، التي ستسهل استغلال الحادثة بالكيفية التي يراها سياسيو الغرب وقادتهم، ليكون شعار محاربة الإرهاب هو شعار المرحلة القادمة...

تجديد الحرب على الإرهاب

وكما استطاع الأمريكيون في السابق تجييش العالم خلفهم بعد أحداث سبتمبر من عام 2001، تمكن الغرب الآن أيضاً من تجييش العالم خلف الحرب على الإرهاب، فكان الاهتمام العالمي المبالغ فيه دليلاً واضحاً على أن هناك إعداداً لمرحلة جديدة للصراع في الشرق الأوسط والمناطق الساخنة في العالم، خاصة بعد إلصاق التهمة بالتنظيمات الإسلامية، التي بدورها هي الأخرى ساعدت الغرب بتحقيق رغبته تلك بالتسابق على إعلان المسؤولية من أكثر من طرف من تلك التنظيمات، بدءاً بسورية والعراق ووصولاً لليمن وغيرها...

ففي الوقت الذي لم تحظ فيه التفجيرات والأعمال التخريبية في مساجد بالسويد التي وقعت قبل أحداث "شارلي إيبدو" بالاهتمام المطلوب، نجد أن قادة العالم قد اجتمعوا في باريس تضامناً مع ضحايا الحادثة، وفي الوقت الذي وُصِم فيه فاعلو الأحداث بالإرهابيين المسلمين، لم نجد أي توصيف أو حديث عن إرهاب مسيحي أصاب مساجد المسلمين في السويد، في صورة مقرفة للكيل بمكيالين عند "العالم المتحضر"..

الكيل بمكيالين لا يقف عند حد توصيف أحداث فرنسا بالإرهاب المسلم والسكوت عن الإرهاب المسيحي في السويد، بل يتعدى لقيمة الإنسان عند الغرب، فقد اجتمع الملايين في ساحات باريس غضباً لمقتل عدة صحفيين أساؤوا ابتداءً لرمز الإسلام، ولم نرَ مثل هذا التجمع البشري لمقتل أكثر من ألف مواطن سوري بمجزرة الكيماوي مثلاً التي لا يمكن إنكار مرتكبها...

لماذا تضخيم الحادثة

إنّ تضخيم حادثة باريس وحشد الملايين في الشوارع واستجلاب عشرات الزعماء من دول العالم يدل على محاولة الغرب إقناع شعوبهم بأنهم أمام خطر حقيقي، لتكون هذه المظاهرات وهذا الحشد الإعلامي الهائل بمثابة التفويض الشعبي لزعماء الغرب لعمل اللازم لكبح جماح ذلك الخطر القادم من الشرق، لتكتمل بذلك الحلقة الأخيرة من مسلسل الإرهاب الذي أخرجه الغرب بإيجاد ما يسمى بـ "داعش" وتضخيمها إعلامياً وكأنها دولة عظمى تهدد مصالح العالم أجمع...

والاختراق المزعوم الذي قامت به "داعش" لحسابات القيادة المتوسطة الأمريكية على تويتر واليوتيوب يدخل ضمن إطار التضخيم لهذا الشبح المصطنع، لتكون الشماعة التي يستخدمها الغرب لأي تدخل في المناطق الساخنة في العالم، حيث أن تدخلهم حينها سيكون مبرراً أمام شعوبهم التي شعرت بأن الخطر دق أبوابهم، وأنهم أمام عدو كبير، وليس مجرد تنظيم بسيط يغلب على منتسبيه الجهل والسذاجة...

سقوط الإنسانية

لقد أثبتت حادثة "شارلي إيبدو" مجدداً سقوط الأقنعة الغربية التي تميز بين الإنسان الغربي والإنسان الآخر، بل وتميز بين الإنسان الغربي ذاته على أساس الدين والعرق، فقد تجاهل أولاند جنازة الشرطي الفرنسي المسلم "أحمد المرابط" تكريساً لهذا الشعور، وتأكيداً لسياسة التمييز القبيحة التي بات الغرب يجاهر فيها دون أي تردد...

ما حدث من تفاعل عالمي للأحداث في فرنسا يزيد السوريين يقيناً بأن الحل لن يأتي من الخارج، وأنه لا بد من التضحيات الذاتية، والاعتماد على النفس في حل قضيتهم، ذلك أنّ أي تدخل خارجي في البلاد لن يكون إلا ليصب في مصلحتهم الذاتية، وخدمة لعملائهم في المنطقة، وأنّ هذا العالم لا يعرف إلا لغة المنتصر القوي، ولا يلتفت للضعفاء حتى لو أُفنوا تماماً...