من يوقف الإرهاب العلماني؟ سؤال موجه إلى الدول الغربية

من يوقف الإرهاب العلماني؟

سؤال موجه إلى الدول الغربية

محمد شركي

[email protected]

هيمن على وسائل الإعلام الغربية يوم أمس خبران : خبر توزيع ملايين النسخ من الأسبوعية الكاريكاتورية شارلي إيبدو، حيث تم توزيعها من طرف جميع المرافق بما فيها الأسواق والمحلات التجارية وغيرها ، وحرصت وسائل الإعلام الغربية على تسجيل لقطات اقتناء النسخ التي تضمنت الإساءة إلى مشاعر المسلمين من طرف نماذج مختلفة من الجمهور الفرنسي، والتي بدت غير عابئة بالإساءة لأنها لا زالت تحت التأثير العاطفي لتداعيات أحداث باريس . وقد خصص لهذا الخبر حيز زمني كبير مقابل تخصيص حيز ضيق جدا لردود أفعال المسلمين على الإساءة الجديدة لشخص الرسول الكريم . والمثير للسخرية أن الذين اقتنوا النسخ المسيئة لمشاعر المسلمين يصرحون بأنهم فعلوا ذلك دعما لحرية التعبير دون أن يخطر ببالهم أن موقفهم يتضمن تناقضا صارخا إذ كيف يدافع عن حرية التعبير من يدوس على حرية الغير . ومن البلادة أن يعتقد الإنسان أن تحقيق حريته يتوقف على مصادرة حرية غيره ، وكأن حريته لا حدود لها بينما حرية غيره مقيدة في حدود معلومة. وهذا التصور أو الاعتقاد الخاطىء يعكس تخلف التصور العلماني الذي تفخر وتعتز به فرنسا وشقيقاتها من الدول الغربية ، وهو تصور تريد هذه الدول عولمته أو فرضه على العالم بمنطق القوة ، وهذا أكبر إرهاب يهدد العالم بأسره. ومعلوم أنه أخطر ممن يمارس العنف المادي ذلك الذي يمارس العنف الفكري والعقدي لأن العنف المادي هو ترجمة للعنف الفكري والعقدي. أو ليس الغرب يرد ما يسميه إرهابا إسلاميا إلى مرجعية فكرية دينية متشددة أو متطرفة ؟ فإذا صح هذا الأمر فهو ينطبق على كل أنواع الفكر والاعتقاد بما في ذلك الفكر والاعتقاد العلماني . وأخطر ما في الفكر والاعتقاد العلماني تقديس الحرية لدى الفرد العلماني الذي يجعل من نفسه إلها ، ويجعل من غيره مجرد مخلوقات ليس لها مواصفاته بما فيها حريته التي يجب أن تتحقق على حساب حرية غيره . وهذا الاعتقاد لدى الإنسان العلماني هو شكل فظيع من أشكال العنصرية إذ العنصرية عبارة عن هوس الشعور بالتعصب للذات . فعندما يصير الفرد العلماني مفتونا بحريته ومن ضمنها حرية التعبير، فإنه يجيز لنفسه أن يعبر كما شاء دون أن توجد حدود أو خطوط حمراء يقف عندها . ومن غرور الإنسان العلماني أنه لا توجد في نظره حدود حمراء تقف دونها حريته المفتون بها ، في حين يجيز لنفسه أن يخط ما شاء من الخطوط الحمراء أمام غيره ممن لا يشاركه تصوره واعتقاده العلماني . والعلمانية الفرنسية الزائدة في ممارساتها الشاذة عن حد العلمانيات الغربية الأخرى قد خطت خطوطا حمراء أمام الرعايا المسلمين ، فأجازت لنفسها التدخل في كسوة نسائهم ولحى رجالهم على سبيل المثال لا الحصر ، فالنقاب واللحية والآذان .... خطوط حمراء في فرنسا بلد الأنوار الذي يحمل شعار المساواة والأخوة والحرية حيث استأثر العلمانيون فيها وحدهم بالحرية على حساب المساواة والأخوة ، فالمسلمون في فرنسا وإن حملوا الجنسية الفرنسية لا يساوون العلمانيين فيها إذ تلبس المرأة العلمانية ما تشاء أو تتجرد من لباسها كليا ، وهي حرة في ذلك ، في حين ليس للمرأة المسلمة أن تلبس ما تشاء بل عليها أن تكون تابعة للعلمانية في لباسها لأن لباسها يعتبر تهديدا لصنم العلمانية . ولو كانت العلمانية كما يدعي المتعصبون لها واثقة من رجاحة موقفها وصحته لما أقلقها لباس أو لحية أو أذان أو غير ذلك ، وهي تملك من قوة الإقناع كما تدعي تبجحا ما يجعل الناس يتهافتون عليها عوض لجوئها إلى خط الخطوط الحمراء لمن لا يقتنع بها على حساب حريته . ومعلوم أن الغرب أدرك جيدا أن خيار العلمانية سائر إلى زوال، فلجأ إلى أسلوب المحرقة العلمانية من أجل تخليصها من تهديد الزوال خصوصا عندما بدأ الرعايا الغربيون يميل عنها نحو غيرها من المعتقدات خصوصا الاعتقاد الإسلامي . وليس من قبيل الصدف أن تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية أخبار تشكك في أحداث باريس الأخيرة ، وهو ما جعل المسؤولين في فرنسا ينزعجون ، و يلوحون بتهديد الإعلام المروج لذلك ، بل لقد تمت ملاحقة بعض المشككين في هذه الأحداث قضائيا ، تماما كما يحصل لكل مشكك في المحرقة اليهودية التي هي على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي المسلم رجاء جارودي من الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل . وعلى غرار دولة إسرائيل لجأت الدولة الفرنسية إلى أسطورة محرقة خاصة بها من أجل حماية انهيار علمانيتها . ومن الغريب أن تعتمد الدول الغربية ومن ضمنها فرنسا استراتيجية تجفيف ما تسميه منابع الإرهاب عن طريق التضييق على كل أنواع الفكر المغذي لهذا الإرهاب، ولكنها في الحقيقة تغذيه بامتياز عندما أرخت العنان لما تسميه حرية التعبير بالمفهوم العلماني ، وهي حرية تسببت في استيراد العنف المضاد لأنها عبارة عن عنف ، ذلك أن هذه الحرية التي تخول لأصحابها التجاسر بالسخرية مما يقدسه غيرهم هي عنف يأخذ شكل القذف والسب والشتم . فإذا كان الإنسان لا يقبل التعريض به والسخرية منه في شكله أو لونه أو غير ذلك ... ،فالأولى ألا يقبل ما يعرض بما يقدسه أو يسخر منه ، لأنه جزء من كرامته وحريته التي توجب الاحترام. وعندما يسمح أصحاب أسبوعية هازلة كشارلي إيبدو لأنفسهم بالسخرية من المقدسات بما في ذلك الذات الإلهية والأنبياء والرسل ، فإنهم بذلك ينصبون أنفسهم آلهة ، ويجعلونها فوق مستوى البشر بذريعة حرية تعبيرهم. ولو كانت فرنسا جادة في محاربة ما تسميه الإرهاب حقيقة لبدأت بتجفيف منابعه أولا من داخلها ، وذلك من خلال مراجعة ما تسميه حرية التعبير التي يساء استعمالها ، وتوظف لاستفزاز المشاعر الدينية المناقضة لمبادىء التعايش والاحترام المتبادل بما فيه حقوق الإنسان بين الأمم والشعوب المنصوص عليها في المواثيق الدولية الملزمة لكل دول العالم . ومعلوم أنه على رأس حقوق الإنسان الحق في الاعتقاد والتدين ، وكل استهزاء بمعتقدات الناس هو عبارة عن اعتداء على أقدس حقوقهم . وإذا كانت فرنسا حريصة على أرواح رعاياها ، فعليها أن تحرص بنفس الدرجة على المعتقدات التي هي بمنزلة أرواح أيضا ، ذلك أن حياة البشر تقوم على أساس هذه المعتقدات التي يعتبر الاعتداء عليها بمثابة أو منزلة الاعتداء على حياة أصحابها . ويبقى السؤال المطروح على فرنسا وغيرها من الدول الغربية العلمانية : من يوقف الإرهاب العلماني ؟