ثورات عالية الخطورة.. الثورة السوريّة نموذجا

ثورات عالية الخطورة..

الثورة السوريّة نموذجا

د. حمزة رستناوي

[email protected]

سأحاول في بداية هذا  المقال, تلخيص عوامل الخطورة التي قد تعيق و تنقص من احتمالية نجاح الثورات بشكل عام .

أولاً: طول فترة الاستبداد ..فكلما طال أمد الاستبداد سيصبح التخلص منه أصعب. فالنُظم الاستبدادية عبر وعلى مدى عقود تقوم  بتصحير الحياة السياسية, و الغاء فعالية الاحزاب و النقابات و أي مؤسسات أو هياكل تنظيمية يجتمع من خلالها الناس. و تقوم هذه النُظم كذلك بتقييد الحريات العامة و تسطيح الحياة الثقافية و تقليص الفضاء العام المشترك بين المواطنين  ..مما يؤدي لنشوء أجيال لا خبرة لها بالسياسة, و قاصرة فكريا عن ادراك مصالح التغيير و الانتقال الديمقراطي .

ثانياً: زيادة درجة القمع في النظم الاستبدادية: كلما كانت السلطة الاستبدادية أشد سطوة و تتحكم أكثر في الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية للمجتمع , كلما كانت احتمالية نجاح الثورة ضدها أقل , فعدم وجود شخصيات سياسية و اجتماعية مشهورة و معروفة و مُقدَّرة ذات هيبة على نطاق واسع في المجتمع – على غرار نلسون مانديلا او غاندي - سوف يعيق استمرار و نجاح الثورة ..لما للقائد / القادة دور هام في تكتيل الحشود المنتفضة و تعريفها, و هذا العامل يتضافر مع العامل الأول (طول فترة الاستبداد) في التأثير.

 ثالثا: وجود انقسامات عامودية في بنية المجتمع المَحكوم , سواء كانت عرقية أو دينية طائفية أو قبلية , فالأنظمة الاستبدادية عادة ما تكون مُتلوِّنة و معتمدة على تقريب فئات معينة لتمكين نفسها ..و عندما تقوم ثورة ضد النظام الاستبدادي فإنها سرعان ما قد تتحول إلى حرب أهلية بسبب اصطفاف هذه الفئات الى جانب النِّظام الاستبدادي  لوجود النزعة العصبيِّة  و الخوف من فقد الامتيازات أو الانتقام .. و إنّ وجود هذا النمط من الانقسامات العمودية في أي مجتمع يعيق تَشكُّل الوطنية ,و مفهوم المواطنة المتساوية.. مما يجعلها وطنيِّة هشّة, و مجتمعات قابلة للانفجار مع اندلاع شّرارة الثورة .

رابعا : وجود سلطة براغماتية  نذلة مُستَعِدَّة لتقديم تنازلات للخارج و الاقليم , بما يشمل و مقابل بقائها في سُدَّة الحُكم فقط.

خامسا : هيمنة الدين السياسي , فوجود تيارات أو احزاب دينية مُهيمنة, أو لها شعبية كامنة عامل خطورة , إذ سرعان ما تتحول الثورة ضد المُستبد و الاستبداد الى حرب دينية عبثية ..و ننتقل من صراع سياسي قابل للحل الى صراع عقائدي ديني لا أمل فيه ( الصراع السني الشيعي حوالي 1400 سنة ) و إنّ هذا في حالة الاسلام السَّني سيسهِّل من مهمة النّظم الحاكمة  في تحويل الثورة الى حرب على الارهاب ..و سيحظى بدعم دولي في ذلك ..و حتّى في حال نجحت الثورة نحن امام استبداد ديني جديد, يقول الكواكبي في طبائع الاستبداد  ( بين الاستبدادَيْن: السّياسيّ والدّينيّ مقارنة لا تنفكُّ, متى وُجِد أحدهما في أمّة جرَّ الآخر إليه، أو متى زال، زال رفيقه ).

سادسا: الموقع الجيو- سياسي: كلما كانت الدولة (المَعْنيّة بالثورة) ذات موقع جيو-سياسي مهم و حساس, كلما ازدادت التدخلات الخارجية في مسار الثورة و تسخيرها لخدمة أجندات و مشاريع بعيدة عن مصالح القوى الشعبية التي قامت بالثورة ..و يبدو هذا العامل واضحا و مؤثرا  في الثورة السورية و الثورة البحرينية مقابل ضعفه النسبي في الثورة التونسية مثلا.

بمراجعة عوامل الخطورة السابقة نجد معظمها موجود في الحالة السورية : فقد استمر حكم الاسد الابن و الاسد الأب ما يزيد عن أربع عقود, و قد مارس النظام الاسدي مستويات غير مسبوقة من القمع و ارهاب الدولة  في التاريخ السوري , و المجتمع السوري يعاني من شرخ عامودي على مستوى الهويّة أبرز ملامحه : علوي – سنّي- كردي, و السلطة الأسدية برغماتية بامتياز , فهي تملك حساسية فائقة , و بارعة في تَجَنُّب التهديدات الوجودية و المصيرية, حماية حدود آمنة مع إسرائيل طيلة نصف قرن , المشاركة في حرب الخليج , إلى التعاون في ملف محاربة الارهاب مع أمريكا  , إلى  تسليم عبدالله  أوجلان , الى الانسحاب من لبنان عقب اغتيال الحريري , الى تسليم الكيماوي بعد مجزرة الغوطة ..الخ. و المجتمع السوري بشقّه السنّي – كغيره من المجتمعات العربية- مخترق الى حد كبير بثقافة الاسلام السياسي (فكرة الدولة الاسلامية- أحكام الشريعة الاسلامية ..) بتياراته المُختلفة من اخواني الى سلفي تكفيري معادي للسلطة  الى سلفي و صوفي موالي للسلطة, و قد ساهمت السلطة الاسدية بدورها في تعزيز الاسلام السياسي السنّي بسبب القمع المفرط لأي نشاط سياسي و ممارساتها الطائفية.. و تشجيع التبشير الشيعي قبل الثورة , و لا ننسى أنّ الدين هو حَدّْ الفقر السياسي , و هو الملجأ الأخير للإنسان المقموع بشكل عام, و كذلك إنّ امتلاك سوريا لموقع جيو– سياسي هام على حدود اسرائيل , في منطقة صراع اقليمي ايراني تركي ..سعودي.. الخ كل هذا جعل من الثورة السورية و منذ البداية حامل لطموحات و مشاريع و أجندات خارجية غير معنيّة أساسا بالمصالح الحيوية للشعب السوري.

و أخيراً, إذا كانت الثورة السورية مَحفوفة بكلِّ هذه المخاطر و منذ البداية, ألم يكن من الأفضل تجنّبها و العضِّ على الجرحْ تجنّبا لخراب أكبر؟!

أقول ربّما يكون ..و لكن في الاجابة سأعرض إلى ثلاث نقاط:

أوّلا : الثورات غالبا انفجار عفوي و ليست بفعل مُسبق التخطيط, انفجار عفوي في مجتمع مأزوم و مضغوط, و عندما تقوم ثورة ضدّ الطغيان لا يمكن للإنسان إلا أن يقف ضد السلطة الاستبدادية الظالمة  التي كانت السبب في اندلاع الثورة , يقف مع أبناء شعبه مادامتْ مطالبهم عادلة, و هذا خيار أخلاقي و انساني بغض النظر عن الموقف و المصالح السياسية.

ثانيا: الثورة كأي كينونة اجتماعية هي صيرورة حركية احتمالية , من غير الممكن التنبؤ بدقة  بمصيرها مُسبقا , و ينبغي العمل على  تقويمها و انضاجها بالخبرات السياسية ما أمكن, و يمكن القول أنّ الثورة السورية ربّما واجهت أسوء السيناريوهات الممكنة بفعل القصور الذاتي وعدم ملائمة وضع الإقليم و الظرف الدولي.

ثالثا: لكون الثورة السورية من الثورات عالية الخطورة بامتياز و منذ بدايتها, كان هذا يقتضي ادراك و  تفهّم  نقاط الضعف فيها , بغية تجنيبها المخاطر المحتملة , و لكن للأسف لم يتم تقييم ذلك بجدّية , و تمّ النظر الى نقاط القوة كنقاط ضعف , فأصبحنا أمام مسوخ أسديّة متعددة معظمها بلبوس ديني, تنظيمات و  امارات و مليشيات تستحق أن يقوم الشعب السوري ضدّها بثورات.. على طريق الخلاص ..و الآلام.