نحن وحركة فتح في ذكراها الخمسين

م. محمد سيف الدولة

م. محمد سيف الدولة

[email protected]

ربما يكون الفصل الأخير فى تجربة حركة "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية يُكتب اليوم مع وصول رهاناتها على التسوية مع العدو الصهيوني إلى طريق مسدود بعد ما يقرب من ربع قرن من انتهاجها هذا المسار وتخليها عن خيار المقاومة المسلحة وتنازلها عن فلسطين 1948.

أو ربما يُفاجئنا جيل جديد من كوادرها وأنصارها بحركة تصحيح ثورية، يتطهر فيها من الأخطاء التاريخية والوطنية التي انتهجتها القيادة الفلسطينية في (أوسلو) وما تلاها.

ولكن في جميع الأحوال، لا يمكن أن نتجاهل الدور الكبير والمحوري الذي قدمته حركة "فتح" للقضية الفلسطينية منذ انطلاقتها الأولى في مثل هذه الأيام من عام 1965، ولا أن نتجاهل الدروس التي تعلمناها من معاركها وتضحياتها في النصف الأول من عمرها، أو من رحلة التراجعات والتنازلات والمفاوضات في نصف عمرها الأخير.

وربما يكون من أكبر خطايانا في فلسـطين وفي الوطن العربي، هو أن الأجيال أو الحركات الجديدة أو التيارات السـياسـيـة، لا تهتم بدراسـة تجارب من سـبقوها أو من يختلفوا معها، لاسـتخلاص الدروس المسـتفادة منها، من انتصاراتها أو هزائمها، من صمودها أو إنكسـاراتها... فتركز فقط على الصراع والمنافسـة بين الخصوم أو بين القديم والجديد، بين المولود وبين الراحل، بين الوريث والمورث... ونظل هكذا حتى نُفاجأ بانتكاسـة جديدة للحركـة الجديدة، وربما لذات الأسـباب التي كانت وراء إنتكاسـات الآباء والأجداد.

ولطالما تمنيت من أشقائنا في التيار الإسلامي في مصر إبان ثورة يناير، أن يدرسوا تجربة عبد الناصر في الخمسينات والستينات، للتعرف على أسباب انتصاراتها وهزائمها، إيجابياتها وسلبياتها، بعيداً عن روح الاستقطاب والصراع السياسي. خاصة وأن التحديات التي واجهتها مصر في تلك المرحلة لا تختلف في محاورها الرئيسية عن ذات التحديات التي نواجهها اليوم.

كما تمنيت كذلك من المقاومة الإسلامية في فلسطين أن تدرس تجربة منظمة التحرير وأسباب تعثرها وانهزام مشروعها وتخليها عن ثوابتها الوطنية التي صاغتها في الميثاق الوطني الأصلي الصادر في 1968!

خاصة وأن الضغوط التي تتعرض لها المقاومة الآن، تتشابه في كثير من الأمور مع الضغوط التي تعرضت لها "فتح" ومنظمة التحرير منذ 1970 حتى 1993، والتي نجحت في كسر إرادتها وهزيمة مشروعها.

فلقد تعرضت لحصار الأنظمة العربية، سواء في الأردن 1970، أو في لبنان  1975 ـــــ 1982، أو من مصر (كامب ديفيد) 1978 وما بعدها، أو غالبية الدول العربية منذ 1982 حتى 1993.

كما أن المنظمة قد تم تصنيفها ومقاطعتها دولياً كمنظمة "إرهابية" لسنوات طويلة قبل أن تعترف (بإسرائيل)، تماماً كما يحدث اليوم مع "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"حزب الله". واشترطوا عليها فى تلك المرحلة الاعتراف (بإسرائيل) ونزع وإلقاء سلاحها وقبول القرار 242 والتنازل عن فلسطين 1948 والاكتفاء بالمطالبة بدولة في حدود 1967. وهي ذات الشروط التي تطلبها الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي والدول العربية من فصائل المقاومة اليوم.

كما تم استهداف قادتها بالتصفية والاغتيال مثل "أبو جهاد" و"أبو إياد" و"أبو عمَّار" وغيرهم، تماماً كما يجري اليوم مع قيادات المقاومة. وهكذا في عديد من القضايا والظروف والتحديات.

فإن أردنا أن نتجنب ذات المصير الذي آلت إليه حركة كانت وطنية ومناضلة ومقاومة ذات يوم، قبل أن تتراجع وتنهزم، فعلينا دراسة تجربتها للتعرف على العوامل التي أدت إلى إنكسار إرادتها وانقلابها 180 درجة على مشروعها الأصلي، الذي ناضلت من أجله طويلاً وقدمت في سبيله عديد من الشهداء والتضحيات. وأنا على ثقة أننا سنجدها تجربة ثرية في أحداثها وتطوراتها ودروسها:

ـــــ سنجد فيها دروساً هامة عن العلاقات الفلسطينية العربية، وعن غدر وحيل ومؤامرات ومخططات الأنظمة العربية، لتصفية القضية الفلسطينية وحصار مقاومتها والمشاركة في القضاء عليها وإكراهها على الاستسلام. رغم كل القرارات الرسمية التي تدعي دعم فلسطين والفلسطينيين بل واعتبار م.ت.ف. هي الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطيني..!!

ـــــ وسنتعلم كيف تستخدم عديد من الأنظمة العربية قضية فلسطين كورقة للتفاوض مع العدو، لتحقيق مصالح قطرية وذاتية، تنتهى ببيع القضية الأصلية والعصف بها.

ـــــ وسنجد دروساً عن كيف يمكن أن تنتقل قيادات فلسطينية وطنية مناضلة من جبهة النضال، إلى جبهة العمل مع العدو والتنسيق معه ضد شعبها وقضيتها ومقاومتها.

ـــــ وسنتعرف على الكثير من الفنون الدولية والصهيونية لكسر الإرادة بالحصار والنفي والاغتيال والتهميش والتجاهل وسياسات الترهيب والترغيب والعصا والجزرة التي يستخدمها الأعداء لهزيمة القيادات واخضاعها أو شرائها واستقطابها.

ـــــ وسـنجد دروسـاً عن كيف يقوم العدو وحلفاؤه الدوليون والعرب بمنتهى البسـاطـة، بالتخلص من الزعماء والقادة المسـتسـلمين بعد أن يسـتخدموهم ويسـتنزفوهم ويسـتنفذوا أغراضهم منهم، سـواء بالقتل أو العزل أو التهميـش والإحتقار.

ـــــ وسـنتعلم كيف أن طريق المهادنـة والاسـتسـلام كالبئر العميق ليـس لـه قرار، من يدخلـه لا يُمكنـه التراجع، ويُصبح كالعبد منزوع الإرادة والحيلـة والخيارات أمام العدو.

ـــــ وسنجد دروساً عن خطورة تفويض الشعوب للزعماء في منظمات وحركات التحرر الوطني ومعارك الاستقلال، والتوقيع لهم على بياض. وكيف يمكن لأي سوء يُصيب الزعيم، أن يعصف بالقضية والمنظمة أو الحركة، سواء مات أو اغتيل أو انكسر أو انحرف أو خان. وسنقف مذهولين أمام حجم القبول والمبايعة داخل كوادر المنظمة وقواعدها لخط الاستسلام (لإسرائيل) والاعتراف بها الذي انتهجته المنظمة منذ 1993.

ـــــ وسنتعلم كيف تُفسد الأموال الثورات والثوار وحركات المقاومة والمقاومين، وكيف يتحول الفدائيون إلى موظفين ومرتزقة.

ـــــ وسنتعرف على المآسي والمذابح التي تعرض لها شعبنا، حين تُقرر القيادة إلقاء وتسليم سلاحها.

ـــــ وسنتعلم أن الشعوب تتخلى عمن يخونها ويخون قضاياها، وتُفرز بشكل تلقائي حركات بديلة. فلا توجد حركة أو منظمة أو فصيل مقدس. كله إلى زوال مهما كان له من شعبية وقوة وسيطرة ونفوذ. وما إنتفاضة الحجارة في 1987 وما تلاها إلا خير دليل على ذلك، ففي ذات العام الذي ألمحت منظمة التحرير عن استعدادها للتسوية والتنازل والاعتراف، فإذا بالأرض في الداخل تفرخ وتلد مقاومة بديلة، سرعان ما تبلورت بالتزامن مع اتفاقيات (أوسلو) إلى عديد من حركات وفصائل المقاومة المسلحة الجديدة.

ـــــ وسـنتعلم أن من المحظورات الكبرى التي توافقت عليها القوى الدوليـة و(إسـرائيل) مع الأنظمـة العربيـة هو حظر أي توحد أو تواصل أو مشـاركـة بين الشـعوب العربيـة بحركاتها السـياسـيـة والوطنيـة وبين المقاومـة الفلسـطينيـة، فيجب عزلهم عن بعضهم البعض بكل الطرق والوسـائل. وهي تجربة الأردن 1968 ـــــ 1970 وتجربة لبنان 1970 ـــــ 1982. وتجربتنا جميعاً كل يوم. وهي من المحظورات التي يُعتبر تحديها وكسرها أحد أهم شروط النصر لأي حركة مقاومة في الأرض المحتلة.

ـــــ وسنُعيد الاعتبار لثوابتنا الوطنيـة ولخيار المقاومـة والكفاح المسـلح، وسـنُدرك أن التسـويـة وهمٌ وسـراب، وأن (إسـرائيل) تريد الأرض ولا تريد السـلام، وأنـه لا أمل في المجتمع الدولي وهيئـة الأمم المتحدة ومجلـس الأمن، ولا أمل في الأنظمـة العربيـة والنظام الرسـمي العربي والجامعـة العربيـة، وأن الشـعوب العربيـة وليـس الأنظمـة هي الداعم الوحيد المضمون لفلسـطين وقضيتها ومقاومتها.