الأنظمة الديكتاتورية وحقوق الإنسان

الأنظمة الديكتاتورية وحقوق الإنسان

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

قبل أكثر من خمسة سنوات، كنت أتحدث في ندوة تلفازية عن الوضع في سوريا، وكانت تدور عن الانتخابات النيابية يومذاك، وكنا ومدير الندوة متفقان تقريباً على أن سورية على موعد مع ثورة شعبية عارمة، ولكن لا أحد يقدر متى وكيف ستنفجر. فالاحتمالات التي طرحتها كانت تدور أساساً حول احتمالين:

الأول حينما يبلغ عمود التراكم حداً لا يحتمل لنظام علاقات، فتنفجر ثورة لتعيد تصحيح المسار التاريخي.

الثاني: وهو احتمال(كنت قد ضمنته في كتابي، قضايا الأمن القومي والقرار السياسي / بغداد 1984) وقوع حدث بسيط، تبخس السلطات القمعية قدره والتعامل معه بسبب الإفراط بالثقة بنفسها، فيتصاعد لهيب الحدث ليفجر التناقضات الكامنة التي تعتمل في داخل المجتمع، وفي مقدمتها الاقتصادية والسياسية.

النظام يحيل ببساطة غير علمية كل ما يحدث إلى مؤامرة أجنبية، فأي جهة خارجية كانت أو حتى داخلية لا تستطيع أن تدفع شعباً مسيساً مثقفاً كالشعب السوري إلى الشوارع لمدة تقارب العام الكامل ليواجه يومياً الموت والقمع الدموي المفرط في قسوته بدفع أموال أو تحريض أو ما شابه، ولكن النظام يريد أن ينفي عن نفسه مسألة أنه قد أصبح خارج التاريخ ولا داعي لوجوده، وهو يقاوم هذه الحتمية التاريخية بالدبابات، فيضيف لمآثره القديمة دماء وضحايا جدد.

في سوريا شعب يتطلع للحرية، ونظام يريد مواصلة الطغيان دون هدف سوى مواصلة الطغيان .... هو تناقض جوهري بلغ أقصاه في التراكم لا يحتمل نظاماً للعلاقات ... ولابد من إحداث تعديل جوهري. ولكن النظام المدجج بالسلاح، وبنصائح من خبراء مخابرات وأمن وقمع، قد أعد نفسه أيما إعداد لساعة المواجهة هذه، فأعد قوات ذات ولاء موجهة، ثم أعد تشكيلة من مؤسسات أمن واستخبارات بالغ في تزويقها وزخرفتها، وفوق كل ذلك أضاف ضرب من مرتزقة طائفية أطلق عليهم أسماً هوليودياً فأسماهم الأشباح أو الشبيحة لإيقاع الرعب في النفوس. والنظام تخصص عبر عقود حكمه الطويلة على كافة فنون القتل: القليل منها إعدام رسمي، والأكثر اغتيالات تتم في جنح الظلام، وموت على آلة التعذيب، أو اختطافاً وتعني غيبة أبدية. وقوانين طوارئ ودستور يشرع الظلم والسلب في وضح النهار، ويجعله حلالاً زلالاً، ورعية ينبغي فوق كل ذلك أن تسجد للقائد.

" من قتل نفسا بِغير نفس أَو فساد في الأَرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أَحياها فكأنما أَحيا الناس جميعا " (المائدة ـ 32) والمعنى الجوهري لهذه الآية تعني أن الإنسان هو غاية الشرائع السماوية، وغاية القوانين الوضعية. والفلسفة أكدت ذات الغاية أيضاً إذ أعتبر فلاسفة اليونان أن حقوق الإنسان هي من جملة الحقوق الطبيعية، وأن الإنسان يولد حراً، وينبغي أن يبقى حراً.

الخليفة الراشدي الثالث عمر بن الخطاب في الدولة الإسلامية الأولى قال: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. وفي عصور هيمنة القوى الرجعية قال جان جاك روسو كلماته التي كانت الشرارة التي أحرقت الطغيان، بقوله: الجماهير حين تثور تفضل الحرية مع الخطر على السلم مع العبودية. هذه الأفكار حملت رياح الثورة، عندما صرخ روبسبير تلميذ روسو بوجه حاجب الملك قائلاً: " أذهب وقل لسيدك إننا هنا مجتمعون هنا بإرادة الأمة، ولن نتفرق إلا على أسنة الرماح ".

الإنسان أثمن رأسمال، هي مقولة للفيلسوف الألماني كارل ماركس التي طالما تصدرت شعارات الثورات. وثوري آخر قال: " أن الشعب الذي لا ينهض ليحطم أغلاله يستحق أن يعامل كالعبيد ". الشرائع السماوية والأفكار الثورية والقوانين الوضعية كلها تقف مع الإنسان ضد الظلم بأنواعه والطغيان. الإنسان غاية التنمية وهدفها، وهي في مقدمة مناهج علوم اقتصاد التنمية، على اختلاف الأيديولوجيات السياسية والاقتصادية.

الإنسان موضع تمجيد الرسالات السماوية والأفكار المتنورة، وحيث انتهت أنظمة وتلاشت معها عبادة الشخصية، يسحق اليوم الشعب السوري ويصادر حلمه وتدمر إرادته وتمتهن كرامته، وتحتقر رغباته وحقوقه في ظل أنظمة لا تريد أن تصدق أن عهود السحق قد مضت بلا رجعة، وولى الظلم والظلام. يقتل الآلاف من الرجال والنساء والأطفال لأنهم أرقام فائضة عن الحاجة، ولأن السيد الرئيس يريد أن يلهو بالحديد، وتعكير مزاجه في ساعة اللهو جريمة لا تغتفر، فكيف يطالبون بإنهاء حكمه وهو الذي يحلم بتوريثها لأبنه ؟ أليس من حقه أن يغضب ... ؟

هي ثلاثية متلازمة: الفقر والقمع والثورة، وهي قاعدة التاريخ المادي لشعوب العالم، وهي مجتمعة اليوم في سورية الثورة، الفقر: لأن خيرات البلاد تسيل إلى حسابات أفراد من النخبة، القمع: لأن الناس تريد أن تعيش العصر، تريد ان تشاهد القتلة واللصوص الحقيقيين في قفص الاتهام الثورة هي حق طبيعي، الثورة نهاية لتراكم بلغ ذروته، هذا الإصرار على الموت سببه الوحيد هو أن الملايين ضاقت ذرعاً، وهي تستسهل الموت على الظلم والطغيان، وليست مؤامرة، ففي ذلك تبسيط ساذج لمسيرة التاريخ.

من يملك حق قتل الناس بالآلاف، لكي يطول حكم ديكتاتور عاماً آخر، من يملك حق إرسال الدروع والأسلحة الثقيلة التي دفع الشعب ثمنها من عرقه ودمه، لتحرث الأرض والبشر،  لماذا يموت الناس وتدمر ممتلكاتهم، من أجل حاكم يمكن أن يزول في دول كبرى أو صغرى بتحريك الناس لأصابعهم لا أرواحهم ...! وإذا كانوا ينكرون اليوم إعطاء الأوامر بالقتل، فماذا هم فاعلون عندما يصبحون غداً في قفص الاتهام ..؟

زعماء عباقرة، قادة حرروا بلادهم كديغول، أو خاضوا الحروب المظفرة كتشرشل، وآخرين من زعماء الدول الاشتراكية ولكل منهم تاريخ نضالي مجيد، تنازلوا عن الحكم لما أدركوا أنها إرادة الشعب، لكنهم ظلوا محترمين في أنظار شعوبهم. وأدركوا أن لا فائدة من التحول من قائد كبير إلى مجرم عريق، ففضلوا التنازل، بل وبعضهم قبل بإرادته لحساب الشعب، ووقفوا أمام شعوبهم بتواضع. عندما أدركوا أنهم خسروا تأييد الشعب، ليس عيباً قبول حكم الشعب، بل هي مأثرة تسجل للقائد الشجاع القادر على اتخاذ القرار، وليس الخاضع لإرادات عديدة بعضها غير وطنية.

قيل لأنديرا غاندي أن تبعد السيخ من بين حراسها، فقالت إن فعلت، فسوف أعمل على تقسيم الهند، وقتلت أنديرا غاندي، فخسرت روحها ولكنها كسبت الهند. القادة الكبار يكونون كبار فقط بإرادتهم الوطنية الصرفة، عندما لا يعلو على صوت الوطن صوت، وصوت الشعب حليف قريب ولا بعيد.

مالعمل ومسيرة القتل تمضي بلا توقف ....؟

تتراكم أسباب التغير كمتوالية عددية، ولكن نابليون بونابارت لا يريد أن يقدم إلا القليل من الفتات وعليكم أن تصدقوا أنها وجبة دسمة، أحتال عليكم نيف وأربعون عاماً كثعلب، وقتل كذئب ضار، وعليكم أن تثقوا أنه تحول إلى صنف من طيور الحب، وأن خطته ليست فخاً، فهو يقدم بيد كتاباً لا نعرف ما به، وما هي خفاياه وخباياه، وما يخبئ لنا بونابارت من تفاصيل قاتلة في قائمته، ليس فيها نقطة واحدة غير مريبة، بينما يحمل بيده الأخرى سكين واضحة، يهدد بها، لا بل هي تقطر دماء حمراء طازجة ساخنة، فأي من اليدين نصدق.

الملف السوري يتنقل من طاولة لطاولة، النظام لا يريد أن يصدق أن هناك من يعد الضحايا التي تسقط كل يوم بالعشرات، الجماهير كانت تطالب بشيئ بسيط، إلغاء قوانين تصلح كنظام داخلي لمجزرة متخلفة، كف يد الجلادين والمفسدين، والتعامل باحترام مع الشعب، ولكن الذين قدموا هذه المطالب قتلوا وتلك هي قبورهم، بينما يسرح القتلة موجودون بثيابهم ووجوههم المرقطة وسلاحهم، وها هم يعدون ويبشرون بالحرية ..؟ فمن نصدق ..؟

كان هناك بين الثوار من يقبل بحلول وسط، ولكنهم ضربوا على أفواههم وأيديهم التي مدوها، لذلك فهناك رحيل يومي من المصلحين المعتدلين صوب معسكر الثوار الباحثين عن حلول حقيقية، الجامعة العربية والأمم المتحدة لم تنصت لهم، بل وقفت لجانب النظام، شهور عديدة لعل النظام يتمكن من حل المشكلة بالطريقة الشامية المعروفة  " دبرها بمعرفتك " ولكن ليس لدى النظام ما يتدبر به شؤونه غير فنون القمع فأنتج أدوات لا يمكن أن توصف بالاحترام.

بصبر وطول بال مدهش، قدمت الجامعة العربية المبادرات تلو المبادرات، فيما يتصاعد لهيب البيت المحترق عالياً، النظام بدهاء الإقطاعي وخبثه، كان قد عقد صفقات سرية بعضها واضح للعيان، والآخر وراء الكواليس يدركها العقلاء ومن يقرؤون الخطاب من سطوره الأولى. بل وحتى المبادرة التي قدمت لمجلس الأمن كانت البراءة تطل من حروفه، ولكن النظام المدجج بالحماية الدولية وشبكة المصالح المعقدة، وجهات داعمة ومساندة، وأخرى صامتة (ومن الصمت ما قتل)،  ليواصل النظام قيادة أوركسترا القتل لتمضي مسيرة الموت، بل لتتصاعد نوعاً وكماً، والثوار الذين أصبحوا على قاب قوسين أو أدنى من الحرية لن يتخلون عن أملهم، فالموت اختياراً أفضل من الموت إعداماً أو اغتيالاً أو تحت التعذيب، وقد أضحى حدثاً يومياً يستهينون به.

النظام يريد من الشعب أن يقبل بما يعطى له، فأحد أبواقهم يصرخ: أي حرية تريدون؟ وبرأيه الحرية مايوه بالكاد يغطي العورة، ليته يسمعني أقول: نريد ما للأجانب من حرية في البلاد المحترمة. النظام مصاب بالدهشة، فلسان حاله يقول، حكمناكم حوالي نصف قرن، فماذا دهاكم اليوم ؟ فالنظام يعتقد انه يدير مدرسة ابتدائية، أو صف لمحو الأمية،  يردد التلاميذ الأطفال ما يقوله المعلم، وعندما يحتج العالم على مشاهد القتل اليومي ينزعج النظام ويعتبره تدخلاً في الشؤون الداخلية، بمنطق: شعبنا ونحن أحرار فيه نقتله كما نشاء وما دخلكم ؟

المشكلة الأساسية للنظام أنه لا يريد أن يصدق أن العالم قد تغير، وأن هناك أنظمة توتالية محكمة أكثير بكثير من نظامه المهترئ، المثير للاشمئزاز قبل السخرية، انتهت رغم أن لها خط اجتماعي وفلسفي جذاب ومهم، النظام في دمشق لا يريد أن يعرف تأثير الثورة التكنولوجية العالمية تسهل للملايين الاتصال فيما بينهم وتوزيع البيانات والنشرات بلمسة أصبع، النظام لا يريد أن يصدق أن الأثير مليئ بالفضائيات، العربية منها تتجاوز الثلاثمائة محطة، والكثير منها بعيد عن القبضة الحديدية، وأما الإذاعات فقد أصبحت لعبة صبيان.

المجتمع الدولي وببرغماتية شديدة، ما زال يفتح طاقة أو نوافذ صغيرة توفيراً للدماء، ولدى الجهات الدولية ملفات موثقة ومؤكدة يمكن أن تضع القتلة في قفص الاتهام ولا مهرب منه، ورغم ذلك، فما زال هناك مخرج ربما غير كريم، ولكنه مخرج يجنبه نهاية مأساوية في شوارع دمشق، لنقل بعبارة أخرى انسحاب منظم.

   

ولكن ماذا بعد الجمعية العامة ...؟

ماذا بعد أن صوت العالم بنسبة أكثر من 90% على إدانة النظام. إنها ليست مؤامرة، ليست تدخلاً خارجياً، كل من يقف في معسكر الشعب السوري، داخلياً الشعب بأسره عدا محترفي القتل والقمع، الدول العربية بأسرها، العالم بأسره عدا 12 دولة فقط. ألاف القتلي وأضعافهم من الجرحى وعشرات الآلاف في السجون لا يعرف مصيرهم، الأزمة ليست ورائكم أيها السادة، بل هي أمامكم بحاجة للعقل بعد أن استنفاذ القوة الغاشمة.

هل هناك فرصة للتفكير والخروج بحلول مرضية ...؟

علم السياسة لا يعجز عن إيجاد حلول لكل مشكلة مهما بلغت درجة تعقيدها. ولكن لابد بادئ ذي بدء أن يعترف من لا يشاء الاعتراف بالشعب كقوة عليا، وهو من يقرر مسار الأمور، وقبل الشروع بوضع خارطة طريق للخروج من الأزمة مكتفين بهذا القدر من المأساة، فهل هناك من يسمع ؟

حسناً: الاعتراف بأن مطالب الثوار عادلة جيد، والأحسن الاعتراف بارتكاب أخطاء جسيمة تواصل لعقود طويلة، قدم فيها الشعب ضحايا لا يقدر أعدادها بسهولة من أجل الوصول لهذه القناعات الجوهرية. ترى ألا يكفي هذا القدر من التراكم المادي لرحيل أي مسؤول أو نظام...! ففي الدول المحترمة يطيح أقل من ذلك بكثير بأي مسؤول مهما علت مرتبته، واليوم فقط، (17/ فبراير)استقال رئيس جمهورية ألمانيا لأسباب تعد تافهة بالمقاييس السورية، وهنا السر في التأييد العالمي الجارف للقرار العربي في الأمم المتحدة.

لا يمكن مطالبة العالم بعدم التدخل، فالعالم اليوم وفق معطيات اقتصادية وثقافية وأخلاقية  قد أصبح قرية صغيرة، بل صغيرة جداً، هل من معطيات السيادة " دعوني أؤدب شعبي كما أشاء لأنهم يريدون تغير الرئيس وطاقمه ؟" هل يمكن للدول العربية أن تشاهد وتسمع ما يجري في سورية ولا يكون لهم رد فعل ؟

اليوم بتقديري لا يزال هناك مخرج يوقف الأضرار الحالية، ويحول دون كوارث أكبر، وهو تهدئة الموقف برعاية عربية بالدرجة الأولى، وانسحاب الطاقم القيادي، والتسليم بضرورة التغيير، وهذا هو السبيل الوحيد لحفظ سوريا ككيان سياسي، ودولة،  ومكتسبات عقود كثيرة، أما القول أنا باق ولينسحب الشعب، فهذا خيال ما بعده خيال، أي قراءة علمية للموقف اليوم تشير أن معسكر النظام يتراجع ويخسر مواقع في الداخل السوري والمحيط العربي والإقليمي، والدولي، وأن قوى التغير تحرز مكتسبات ومواقع وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها اليوم لم تعد هناك أسماء مهمة، ولا ضمانات، هناك شيئ واحد ينبغي أن يكون في ذهن الجميع، سورية الوطن، سورية الدولة، سورية الشعب، سوريا المنجزات والمكتسبات التي حققها الشعب بمسيرة معقدة وصعبة للغاية، وهي الشيئ الوحيد الذي يستحق الحفاظ عليه، وأن يكون في المقام الأول في كل برنامج.

النظام يبشر الشعب بأنه تاب كما يتوب الثعلب عن أكل الدجاج، ويتحول إلى نباتي، ويقدم دستوراً لا يستحق إلا جعله مادة لفلم كارتون هزلي، دستور لا يغير من الأمر إلا بمقدار ما لا يبعدهم عن مواصلة الدكتاتورية والفساد ولكن هذه المرة بقوة القانون، وهذا فن يدخلك في عالم الحيل السحرية التي تعتمد على خفة اليد،  لنعرف أن هناك من يجيد الضرب على القانون كما يصنع الموزائيك، ويقدم لك شيئ أشبه بالدستور ولكنه ليس بدستور، وحرية بحيث لك بدرجة أن لا تفعل شيئ على الاطلاق، وحرية صحافة على أن لا تكتب لا على الورق ولا على الجدران، فتمتعوا بديمقراطية لم تكن.

ولكن: لا الماء يروب ولا الواوي يتوب، هذا مثل عراقي شهير الماء لن يروب ويصبح لبناً كما الثعلب لن يتوب. والثعلب يظن أنه بدهائه يفعل الأعاجيب كالساحر، وقد فاته أن الأسواق مليئة بفراء الثعالب.