القاعدة... في خدمة النظام

د. نور الدين صلاح

يستغرب المراقبون سرعة اكتشاف منفذي جريمة التفجيرين الإرهابيين (المفترضين) بدمشق فبعد ثلث ساعة من الحدث اتهمت القاعدة وما زالت الجثث في مسرح الجريمة، وتحقيق اغتيال مغنية في نفس المربع الأمني والذي جرى من سنين لم تنته تحقيقاته إلى الآن، وفي المساء أعلنت (قناة الدنيا) أن منفذي العملية أو من شاركوا بها لم يصابوا بأذى وسوف تعرض اتهاماتهم قريباً وأنا سأضع بين يدي القارئ الحقائق التالية:

أولا : لا يخفى على من له أدنى اطلاع على تاريخ النظام وتعامله مع هذه الأعمال أنها لا تستند إلى أدنى درجات المصداقية والواقعية، ومما يؤكد هذا أن القاعدة تتبنى كل العمليات التي تقوم بها في كل مكان وتعلن عنها في كل المناطق إلا في سوريا فلا يصدر لها تصريح واحد، وإذا صدر فيكون على طريقة (أبو عدس) عند اغتيال الحريري، لكن النظام يحملها إياها وكأنه هو الناطق الرسمي لها وكأنه من صنعها

ثانياً : وفي كل هذه الأعمال تختفي الدافعية التي تبرر نسبة الأعمال إلى القاعدة ولا يعرف لها أي هدف واضح أو خفي لذا تجد وسائل إعلام حزب الله تنسب هذين التفجيرين إلى الاستخبارات الأمريكية، وكيف تلتقي القاعدة مع الاستخبارات هذه وخاصة بعد مقتل زعيمها (بن لادن) مؤخرا، بل على العكس من ذلك نجد أن هذه الأعمال بتوقيتها وإخراجها تظهر وكأنها محاولة لخدمة النظام مما دفع أحد المراقبين إلى القول بأن القاعدة دائما في خدمة النظام السوري

ثالثاً : لكن من الملاحظ كما يقال (حبل الكذب قصير) مما جعل هذه تمثيلية مكشوفة لا تجاوز لعبة صبيانية لا تحتاج لكثير ذكاء ولا لتمرس في التحليل ودقة في المحاكمة العقلية، إذ ثمة أسئلة كثيرة تطرح على رواية الدولة لهذا الحدث، وبالتالي تفند الرواية المزعومة، وبالمقابل نقدم الرواية الأقرب للصحة بناءً على الدوافع والأهداف وبعض ما اكتشف من مفردات هذا الحدث، ومن تلكم الأسئلة :

· من يعرف موقع هذه المركزين الأمنيين فرع المنطقة (خلف الجمارك) ومركز (المخابرات العامة) ما بين ساحة المجتهد ودوار كفرسوسة لأدرك ببساطة صعوبة وصول سيارتين مفخختين إلى هناك، فكيف وصلتا وبخاصة يوم الجمعة صباحاً والطرق غير مزدحمة يسهل مراقبتها؟؟؟ مع وجود عشرات الحواجز على مداخل دمشق وكثير من شوارعها الداخلية وانتشار الأمن والشبيحة في كل مكان وخصوصاً تلك المناطق!!!

· وإذا كان هذا النظام الأمني عنده هذه القدرة الخارقة لكشف الجريمة بهذه السرعة الفائقة بعد وقوعها فلماذا لم يكتشفها قبل وقوعها كما نلاحظ كل يوم على شاشات النظام أنه تم اكتشاف عبوات ناسفة في أماكن أقل أهمية بكثير من هذا المربع الأمني الأول في كل سوريا ؟؟؟ وتزامن هذا مع إعلان التحذير من وزير الدفاع اللبناني أن هناك عناصر من القاعدة تسللت من لبنان عبر (عرسال)، وركز الإعلام السوري على هذا التصريح خلال اليومين الماضيين، فلماذا إذا كان هذا صحيحاً لم يلق القبض عليهم في لبنان ولم تتعقبهم أجهزة الأمن السورية فور دخولهم الحدود السورية حتى وصلوا بعد يومين إلى المربع الأمني الأول في دمشق!!! وهل يكفي يومان لتخطيط وتنفيذ عمليتين كبيرتين بهذا الحجم في بلد مستنفر أمنياً وعسكرياً !!!!

· وإذا كان القتلى (المفترضين للعملية) بلغوا أربعة وأربعين والجرحى جاوزوا المائة في دائرة تقدر بعشرات الأمتار وقد تفحم بعضهم وتقطعت أشلاؤهم، وهذا يعكس قوة التفجير ، فكيف يسلم منفذا (العمليتين الانتحاريتين) !!! وهذا التفجير الذكي أشبه ما يكون بالذئب الذي أكل يوسف ولم يتمزق شيء من قميصه !!! ولو سلم واحد من المنفذين وقتل واحد لكانت الرواية أقل كذباً !!!! وإذا كان هؤلاء من المشاركين الذي يقفون ببلاهة في مسرح الجريمة ليقبض عليهم لكان الاستغراب أكبر، لكن في سوريا يسلم الانتحاريون ويبعثون في فروع الأمن من جديد ويقتل الأبرياء وتفوز أجهزة الأمن وتصنع البطولة بعد وقوع الجريمة

· والمنطقة المذكورة ليس فيها أي مركز عسكري بل كل هذه المنطقة مراكز أمنية وحراسها من الأمن فمن أين جاءت الضحايا العسكرية !!!

· ولماذا لم يتم عرض العمليتين وكيف تمّتا تلفزيونياً على الفور والكاميرات المبثوثة في المنطقتين بالمئات وليس بالعشرات تسجل كل تحرك وتوثق كل حدث، وقد يفطن النظام بعد حين لهذه الثغرة فيتم العرض بعد فبركة وتزوير

إذن فالرواية البديلة والتي هي أقرب للصواب والصحة والواقع والتي تجيب على كل الأسئلة والشبهات التي يمكن أن تثار حولها هي أن النظام هو من قام بهذه العملية المفبركة الفاشلة البدائية الغبية وسأثبت ذلك بمحورين الأول مجريات الحدث وما لابسه من توقيت وملاحظات والمحور الثاني الهدف والرسالة المبتغاة منه

إن من يعرف النظام السوري وتعامله مع شعبه ليدرك أن الشعب كل الشعب بنظره لا يعدو سوى رقم وأداة يمكن استخدامها والتلاعب بها لأي غاية ولو كانت دنيئة ولأي هدف ولو كان رخيصاً، فالدماء لا قيمة لها ولا حقوق للإنسان ولا حرمة لمواطن، والنظام على استعداد ليغطي جريمة بجريمة أشنع منها، تم سحب كثير من الجثث المفترضة في العمليتين من المجازر التي حصلت في جبل الزاوية وكثير منهم من العسكريين المنشقين ونقلت ليلة التنفيذ عبر شاحنة مبردة إلى دمشق وهذا ما يفسر وجود ضحايا من العسكريين وهذا خبر مسرب من داخل الأمن نفسه، وتم تصفية بعض المحتجزين المدنيين في هذين المركزين الأمنيين ووضعت جثثهم في موضع التفجيرين وقد يكون من الضحايا قليل من السيارات العابرة القليلة في هذا الوقت، والعجيب أن القتلى من المدنيين كلهم رجال وليس فيهم نساء ولا أطفال، ولم نسمع بأسماء القتلى المدنيين الدمشقيين، وأما طبيعة التفجير فكل من رآه من بعيد رأى سحباً دخانية بيضاء وليست سوداء، وهناك أخبار أخرى موثوقة بتحذير كثير من العناصر من الحضور في هذا الوقت وتم إبعادهم في مهام خارج الفروع تحسباً لمظاهرات يمكن أن تخرج في بعض المناطق يوم الجمعة نفسه

وهناك تفاصيل أخرى ستكشف عما قريب، فرواية الدولة متناقضة ومتهافتة، وبدأ النظام في استثمار الحدث فعقد تشييعاً جماعياً للجنائز في مسجد بني أمية بدمشق وتحدثت الجوقة الثلاثية المعروفة (المفتي ووزير الأوقاف والبوطي) لتبني رواية الدولة والذهاب إلى أبعد من ذلك في (منظومة المؤامرة) وتصدير المشكلة في اصطناع عدو خارجي جديد لم نسمع عنه خلال تسعة أشهر ألا وهو (القاعدة) ومن المعروف أن النظام يقتل القتيل ويمشي في جنازته ويعدد مآثره، ولا أدل على ذلك من الجنازات الرسمية المحترمة للجنود المنشقين الذي يقتلون على يد الأمن والشبيحة لرفضهم قتل المواطنين ثم يسوق هؤلاء على أنهم شهداء الوطن قتلتهم العصابات المسلحة، ولن يتورع النظام أن يمضي في كذبه إلى أبعد مدى فالجميع يعرف أنه نظام بلا أخلاق ولا قيم ولا مبادئ ولا رحمة

وإن رسالة النظام رسالة مزدوجة أولاهما للجامعة العربية ومراقبيها الذين وصلوا قبيل ساعات من الحدث ومفادها ما دندن له مراراً (المعلم) برواية (العصابات المسلحة) ومهد له بآخر مؤتمر صحفي عقده أثناء توقيع البروتوكول فقال ما نصه (أي عمل إرهابي مسلح أمام المراقبين الدوليين لن يكون إحراجاً لنا بل سوف يزيد من مصداقيتنا بوجود العصابات المسلحة) ولم يعط النظام الفرصة للجنة المراقبين للالتقاط الأنفاس فبادرهم بهاتين العمليتين ، ومن ثم ليبين لهم أنه لا يوجد أمن لهم في أي مكان سينتقلون إليه فإذا كان بالإمكان خرق المربع الأمني الأول فمن باب أولى ألا يكون الأمن مضموناً في موقع آخر، وعلى كل سوف تبقى ثغرة في أهداف النظام بهذا العمل المشين ألا وهي ما علاقة المظاهرات السلمية والمتظاهرين بهذا ؟؟؟ وهذا ما بينته المظاهرات التي استمرت في جمعة (بروتوكول الموت) فلم يأبه المتظاهرون لهذا الحدث المفبرك ولم يعيروه بالاً بل على العكس قوبل بالسخرية والاستخفاف وشعارات التهكم، وهذا يدل على وعي شعبنا الذي تعود على أمثال هذه المسرحيات الهزلية، وهذا الوعي تعزز بعد كشف النقاب عن جرائم مماثلة لأجهزة لها نفس التركيبة والعقلية وما تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية عنا ببعيد فقد انكشفت كل تفاصيلها كما ستنكشف تفاصيل كثير من الجرائم التي تجري في سوريا الآن ومنها هذان التفجيران المصطنعان

والرسالة الثانية إلى الشعب وبخاصة المتظاهرين منهم ومفادها أن النظام ماض بحله الأمني لآخره وليس هناك أي تغيير لمنهج التعامل الأمني لأي حل سياسي بل على العكس من ذلك صعّد من حله الأمني ودخل فيه مرحلة جديدة مهّد لها من مدة وهي مرحلة (التفجيرات القذرة) التي تثير الرعب والاشمئزاز باستجلاب صورها المأساوية في العراق الجار الشقيق والتي رآها أهل سوريا وتوجسوا منها، فقد دأب الإعلام السوري على عرض عبوات ناسفة مزروعة هنا أو هناك من خلال رسالة مبطنة (مو كل مرة بتسلم الجرة) وهذا الأسلوب انتهجه النظام في أزمة الثمانينات فقام بعمليات تفجيرات كبيرة راح ضحيتها الكثيرون من المدنيين الأبرياء ونسبها إلى خصومه المفترض القضاء عليهم، ونفس اللعبة الآن تمارس في العراق وثبت أن كثيراً من الجهات السياسية والأمنية متورطة فيها بشكل مباشر

إذاً الخلاصة أن أهداف النظام المرجوة من هذين التفجيرين اللذين اتهمت بهما (القاعدة) يمكن أن نخلص منها إلى النتيجة المنطقية (أن القاعدة في خدمة النظام) وهذا بدوره يبين لنا نفس اللعبة في أماكن عدة بتسويق هذا (العدو الافتراضي) لتبرير سياسيات أو لاكتساب مشروعية بقاء أو لتسويق وظيفة لأنظمة فقدت وظائفها الإقليمية التي لعبت بأوراقها وجعلت منها الحبل السري والرئة التي تتنفس من خلالها

لكن السؤال المطروح الآن هل سينجح النظام بهذه السياسة وهذه الممارسات في تحقيق أهدافه وإبعاد شبح السقوط والانهيار هذا ما يأمله النظام، لكن الواقع يشي بعكس ذلك هناك حقائق على الأرض يراها الناس بأعينهم فلن يستطيع إعلام النظام خداعهم وتزوير الحقائق أمامهم، وستوف تبقى في الروايات الكاذبة ثغرات وليس هناك جريمة كاملة، وإن خطاب النظام الإعلامي بمجمله موجه للخارج، ومعادلة الداخل قائمة على القوة وليس سوى القوة، والقوة في النتيجة إذا لم تكن مبررة وشرعية فهي وهم قاتل وسراب خادع ولن تولد سوى ردود أفعال مماثلة، وإدخال الشعب في لعبة صراع القوة مغامرة حقيرة ومقامرة خاسرة إذ أن الشعوب ستنتصر في النهاية لكن الأثمان ستكون باهظة، والتاريخ والواقع خير شاهدين

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية.