الخوف من الإسلام أم الخوف من العلمانية

وائل بن إبراهيم بركات

وائل بن إبراهيم بركات

إن العالم الذي أضحى قرية يعيش في تيه يروج للخوف من الإسلام ، يخاف من الفطرة التي يؤمن بها الإنسان المسلم ، ونتساءل هنا : لماذا حلال على الغرب أن يخاف من الإسلام ، وان يحكم من خلال عقيدته ؟ ولماذا حرام علينا أن نخاف من العلمانية ، وأن نحكم من خلال عقيدتنا ؟

إن من حق العالم الغربي أن يعيش حياته وفق مرئياته وفلسفته في الحياة ، ونظرته للكون والإنسان ، ولديه مبررات وذرائع سواء كانت صحيحة أو خاطئة لكي يخاف من الإسلام فهو لا ينسى معركة بلاط الشهداء ( يطلقون عليها بواتيه) ولا ينسى فتح الأندلس والقسطنطينية ، وها هو الإسلام ينتشر لديهم بقوة ، يحطم فلسفتهم المادية ويصحح نظرة معتنقيه للكون والحياة والإنسان .

إن العالم الغربي لا يخشى أو يخاف من علمانيته ، وهي باطلة ، فلماذا ينتقل الخوف من الإسلام إلى المسلمين أنفسهم ، فتجد الإعلام وبعض المثقفين ذوي الخطاب العلماني يروج لـ" فوبيا " الإسلام وكأن هؤلاء الكتاب والمثقفين لا ينتمون لهذا العالم العربي الإسلامي ، ولا يحملون الديانة الإسلامية !؟ والإسلام حق ، وهو الدين الأسرع نموا في العالم ، كما نشر موقع السي إن إن ، وليس هذا فحسب بل الذي يحير الباحثين أن هؤلاء المسلمين الجدد يتحولون إلى دعاة للإسلام ، فيدعو زوجته وأولاده وأبويه وأصحابه ، ويؤمن بدينه الجديد إيمانا كاملا ـ فلا يؤمن ببعض ويكفر ببعض ـ ، محدثا تغييرا شاملا في شخصيته ، فيترك شرب الخمر بعد أن كان لديه مثل الماء ، ويترك الزنا بعد أن كان لديه عادة ، ويحرص على الصلوات وأداء الشعائر فلا يفرق بين الدين والدنيا ، بل الدين أضحى لديه منهج حياة .

أليس من حق هذا الإنسان المسلم أن يخاف من العلمانية ، من التيه الذي يغرق فيه العالم الغربي ، والذي امتدت أثاره إلى العالم العربي والإسلامي؟  فقد عاش العالم العربي منذ تفكك الدولة العثمانية  في تيه حائر بين التيارات السياسية والاجتماعية المتنوعة ، التي لم تخرج من عباءة العلمانية مثل الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية ، والتي أنتجت أنظمة متصارعة ومتسلطة تصنع الحروب والدمار والظلم والاستعباد وكتم الحريات ، والتخلف الحضاري والتنمية والتفكك الاجتماعي والأزمات النفسية والاقتصادية والذل والتبعية للغرب .

ورغم هذه النتائج التي أنتجتها العلمانية في العالم الإسلامي إلا أنها لم تمس من جوهر الإسلام ، على عكس المسيحية التي فقدت قيمتها وقداستها كمرجعية دينية وأخلاقية واجتماعية للإنسان الغربي .

يقول العالم الإنجليزي "إرنست جيلنر": "إن النظرية الاجتماعية التي تقول إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يُقوِّض الإيمان الديني صالحة على العموم، لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جداً من هذا!! إنه لم تتم أي علمنة في عالم الإسلام، إن سيطرة الإسلام على المؤمنين به قوية، وهي أقوى مما كانت من مائة سنة مضت، إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين (...) والإصلاح الذاتي استجابة لدواعي الحداثة في عالم الإسلام يمكن أن يتم باسم الإيمان المحلي، وليس على حساب الإيمان".

ولإدراك أسباب هذا الذي حدث للمسيحية الغربية ولم يحدث للإسلام لا بد من البحث المقارن في الديانتين وفي المواريث الحضارية للحضارتين :

أولاً :  صورة " الله "  وآفاق علمه وعمله في الفكر الإغريقي ـ والأرسطي خاصة ـ حيث " الله " مجرد خالق للعالم ، لا علاقة له بتدبيره ورعايته ، فهنا جذور للعلمانية .

ثانياً :  المقاصد الدنيوية اللاأخلاقية للقانون الروماني ، قانون المنفعة غير المضبوطة بمقاصد الدين وأخلاقياته ، فهنا جذور للعلمانية .  

ثالثاً :  الفصل اللاهوتي بين ما لقيصر وما لله ، والذي فتح الباب للعلمانية .

رابعاً :  عقيدة الصلب . وهل مهد موت "الابن " في اللاهوت لموت " الأب " في الثقافة العلمانية ؟ ( أعلن نيتشه عن موت الإله ، وبروز الإنسان السوبرمان )

خامساً :  الثنائية الحادة والمتناقضة في التطور الغربي بين :

لاهوتيين لا عقول لهم (يمثلون الكنيسة )

ورد الفعل الذي أثمر : أخصائيين لا روح لهم ، وعلماء لا قلوب لهم . ([1])

ثم يقول الأستاذ محمد عمارة : أدعو لدراسة هذه القضايا والعوامل في ضوء نظائرها في الإسلام :

1- صورة نطاق عمل الذات الإلهية : فاله ليس مجرد خالق " وإنما خالق ومدبر " { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }( الأعراف : 54 ){ قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه : 49-50)

2- علاقة الدين بالدنيا : التمييز ، لا الفصل ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له ..} ( الأنعام 162-163) ( فالدنيا مزرعة الآخرة ، ولا بد من التزود منها )

3- علاقة الشريعة بالفقه

4- علاقة العقل بالنقل ، فلا مقابلة بين العقل والنقل ، لان مقابل العقل هو الجنون وليس النقل ، ونحن نقرأ النقل بالعقل ، ونحكم العقل بالنقل .

5- مصادر المعرفة وسبل المعرفة ( العقيدة في المسيحية غير مفهومة ولا يمكن إدراكها بالعقل فهي قائمة على الرموز والغموض ، ولذلك يقولون : " آمن ثم افهم " أما في الإسلام فقد جعل العقل شرط التكليف وجعل له حجيته في التمييز بين الخير والشر بل ومعرفته بمعنى  " افهم ثم آمن " )

6- علاقة الذات بالآخر ، التعددية في الشعوب والقبائل والألوان والأجناس ، في الألسنة واللغات ـ أي القوميات ـ ، في المناهج ـ أي الحضارات ـ في الملل والشرائع والديانات .([2])

هذه هي العلمانية وهذا هو الإسلام ، ولهذا من حق الإنسان المسلم أن يخاف من العلمانية ، وان يقف ضدها ليحاورها ويدعوها بالحكمة ، والموعظة الحسنة ويجادلها بالتي هي أحسن لتعود إلى فطرة الإنسان ، والى رؤية الحقيقة المتجلية في آيات الله في هذا الوجود ، فكل شيء يركع ويسجد لله ، فليست الصلة بين العبد وربه صلة قلبية فقط  بل هي صلة شمولية ايجابية متكاملة فكل ما في هذا الكون يشارك الإنسان العبودية لله ، ولهذا كان الإسلام في كل شيء ، لأنه منهج حياة ، وسفينة نجاة ، وبناء حضاري للبشرية .

وهذه الثورات التي انطلقت في البلاد العربية ، ذات دلالة عميقة وقد أشرت إليها في مقال "الثورة الذاتية " و" تحرير الفكر" ـ المنشوران في موقع لها أون لاين ـ ومن ذلك أنها تعيد للإنسان إنسانيته ، وكرامته وعبوديته لله الواحد ، وبالتالي تؤكد حقيقة فكرية مهمة في نتائج  المذاهب والأفكار العلمانية  والأيدلوجيات المستوردة  فقد سئم الإنسان من الخواء الروحي ، ومن العذاب النفسي ، ومن الشقاء البدني ، ومن التخلف التنموي ، والبؤس الحضاري .

إن هذه الثورات هي ثورة على المشروع التغريبي بكافة أشكاله ، ولذا من حق الإنسان أن يخاف من التيه أن يعود إليه مرة أخرى ، ومن حقه أن يعود إلى فطرته ، وهذا ما نراه في الانتخابات التونسية والمصرية على سبيل المثال ، فلماذا الخوف من الإسلام ؟

إن خوف هؤلاء ليس في محله ، وليس موجودا في الواقع ، فالإسلام ليس جديدا على الناس ، فهم مسلمون ، بل هو خوف موجود في عقولهم فقط . اذ يتبادر إلى أذهانهم في حال تطبيق الشريعة الأيدي المقطوعة ، والزناة المرجومين ، والتلفاز كله تلاوة للقرآن وإلقاء للمواعظ . فلا مسلسلات ولا أفلام ولا راقصات !!! وكأن الحياة لا تستقيم إلا بهذا التلوث العقدي والأخلاقي  والانحلالي المنتشر في الفضائيات .

ونسي هؤلاء أنهم مسلمون أي مستسلمون لله ، خاضعون له بفعل أوامره وترك نواهيه ، وليس مستسلمين للغرب في علمانيته .

إن على النخب المثقفة ذات الخطاب العلماني إعادة خطابها من جديد فتتعرف على الإسلام قبل أن تتخلص منه أو من بعض أجزاءه ، ليلتقي مع سلام النفس وسلام المجتمع وسلام العالم ، والاعتراف بالخطأ والتراجع عن العلمانية التي بدأ الغرب يتراجع عنها ، ويعود مرة أخرى إلى الدين .

يقول أ.د.مصطفى حلمي : " فقد استطاعت الحركة الأصولية البروتستانتية أن تلعب دوراً مؤثراً في الحياة السياسية الأمريكية، واستعادة المفاهيم والتصورات النقية التي طرحتها الأصولية في بدايات القرن، وصبغها بأبعاد سياسية، واستخدامها في الواقع السياسي الأمريكي، بل وامتدادها لتشمل السياسة الخارجية الأمريكية، وكان المرشحون الثلاثة إبان انتخابات الرئاسة عام 1980م أندرسون وكارتر وريجان، كانوا يعلنون جميعًا انتماءهم إلى الإنجيلية" .

وتقول كارين آرمسترونج ـ أستاذة الأديان المقارنة بجامعة أكسفورد ـ : " إن الدين أصبح قوة يعمل لها حساب ، وانتشرت صحوة دينية لم تكن تدور بخلد الكثيرين في الخمسينيات والستينيات ، إذ كان العلمانيون يفترضون أن الدين خرافة تجاوزها الإنسان المتحضر العقلاني، وأنه على أحسن الفروض مجرد نشاط فردي عاجز عن التأثير في الأحداث العالمية" .([3])

ويقول القس الألماني جوتفرايد كونزلن : ولقد قدمت العلمانية الحداثة باعتبارها ديناً حل محل الدين المسيحي، يفهم الوجود بقوى دنيوية هي العقل والعلم.. لكن، وبعد تلاشي المسيحية في أوروبا سرعان ما عجزت العلمانية عن الإجابة على أسئلة الإنسان، التي كان الدين يقدم لها الإجابات.. فالقناعات العقلية أصبحت مفتقرة إلى اليقين.. وغدت الحداثة العلمانية غير واثقة من نفسها، بل تفككت أنساقها العقلية والعلمية ـ عدمية ما بعد الحداثة.. فدخلت الثقافة العلمانية في أزمة، بعد ان أدخلت الدين المسيحي في أزمة.. فالإنهاك الذي أصاب المسيحية أعقبه إعياء أصاب كل العصر العلماني الحديث، وتحققت نبوءة نيتشه (1844 ـ 1900م) عن " إفراز التطور الثقافي الغربي لأناس يفقدون نجمهم الذي فوقهم، ويحيون حياة تافهة، ذات بعد واحد، لا يعرف الواحد منهم شيئا خارج نطاقه " وبعبارة ماكس فيبر (1864 ـ 1920م) : " لقد أصبح هناك أخصائيون لا روح لهم، وعلماء لا قلوب لهم "!.

ولأن الاهتمام الإنساني بالدين لم يتلاشى، بل تزايد .. وفي ظل انحسار المسيحية، انفتح باب أوروبا لضروب من الروحانيات وخليط من العقائد الدينية لا علاقة لها بالمسيحية ولا بالكنيسة .. من التنجيم .. إلى عبادة القوى الخفية والخارقة، فالاعتقاد بالأشباح، وطقوس الهنود الحمر، وروحانيات الديانات الأسيوية.. والإسلام، الذي أخذ يحقق نجاحا متزايدا في المجتمعات الغربية .

لقد أزالت العلمانية السيادة الثقافية للمسيحية عن أوروبا ..ثم عجزت عن تحقيق سيادة دينها العلماني على الإنسان الأوروبي، عندما أصبح معبدها العلمي عتيقا ! ..ففقد الناس النجم الذي كانوا به يهتدون : وعد الخلاص المسيحي ..ثم وعد الخلاص العلماني "..([4])

إن من حق كل إنسان مسلم أن يخاف من العلمانية ، ومن حق كل إنسان علماني أن يعود إلى الإسلام بشموله وتكامله وتوازنه بعد أن خدعنا الغرب فقالوا الغرب تخلى عن دينه.

                

[1] ) نقلاً عن د . محمد عمارة في تعليقه على مقال للقس جوتفرايد كونزلن، مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا، تقديم وتعليق د. محمد عمارة، نهضة مصر، 1999 ، د .ط، ص 41

[2] ) نقلاً عن د . محمد عمارة في تعليقه على مقال للقس جوتفرايد كونزلن، مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا، تقديم وتعليق د. محمد عمارة، نهضة مصر، 1999 ، د .ط، ص 42

[3] ) انظر المنهج السلفى لا الحداثة طريق النهضة مصطفى حلمي

[4] ) نقلاً عن د . محمد عمارة في تعليقه على مقال للقس جوتفرايد كونزلن، مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا، تقديم وتعليق د. محمد عمارة، نهضة مصر، 1999 ، د .ط، ص 33-34