أكبر من معركة صغيرة

صلاح حميدة

[email protected]

عندما فازت حركة "حماس" في الانتخابات التّشريعيّة عام 2006م، نقل عن قيادي في جماعة الإخوان المسلمين المصريّة قوله أنّ " حركة حماس سبقت وقتها بثلاثين سنة" وفهم حينها من كلامه أنّ "حماس" ربّما تعجّلت في خوض معركة الإرادة الشّعبيّة مع الغرب وهو ما وضعها تحت حصار و حرب استئصال ثمّ حصار شديد لا يزال مستمرّاً حتّى الآن.

عند دراسة تجربة حركة "حماس" في الصّمود في وجه الحرب والحصار واستمرار حكومتها المؤيّدة بالإرادة الشّعبيّة عبر صناديق الإقتراع، من الممكن أن نلمح أثر تلك التّجربة على الوعي الشّعبي العربي الّذي عانى من إجهاض إرادته وأحلامه بالحرّيّة في اختيار من يمثّله، فقد سبقت تجربة حركة "حماس" تجارب أخرى تمّ إجهاضها أو حرفها عن مسارها، وكانت التّجربة الفلسطينية الأكثر صموداً وقدرةً على الاستمرار، ولذلك من الممكن اعتبار هذه التّجربة عنواناً للنّجاح  النّسبي و ليست عنواناً للفشل كما يحاول البعض التّلويح، وأهم ما أنجزته هذه التّجربة هو لفت نظر الشّعوب العربيّة إلى قدرتها على فرض إرادتها على العالم حتّى ولو حاصرها وحاربها، وبالتّالي من الممكن القول أنّ فوز حركة "حماس" لم يكن سابقاً لزمانه بثلاثين سنة، بل ممهّداً لنهضة شعبيّة عربيّة لحقته بعد ست سنوات، وكما كانت إرادة الشّعب الفلسطيني مفاجأة أذهلت العالم، كانت إرادة الشّعوب العربيّة كالزّلزال الّذي هزّ العالم وأطاح برؤوس كبيرة من عتاة الاستبداد، ولا تزال تدك عروش آخرين ممن سلبوا هذه الشّعوب حقوقها وعاملوها مثل العبيد.

بعض الكتّاب والمحللين يرون أنّ الإسلاميين قادمون، وأنّ نتائج الانتخابات التي تتوالى من المغرب وتونس ومصر تظهر أنّ هذا عصر الإسلاميين، ولكن من المفيد أن يتمّ تحليل ما يجري بطرق أشمل من تلك التي تصوّر ما يجري على أنّه إطاحة بعهد وعلوّ شأن آخر، فالواقع أوسع و أشمل بكثير من هذا التّوصيف  للأحداث.

فالشّعوب العربيّة تعمل على انتزاع حرّيّتها بقيادة الحاملين للواء التّغيير، وهم في هذه الحالة من يوصفون بالإسلاميين، وهذه العمليّة لم تنته بعد ولا تزال مستمرّة، ومن الواضح أنّ الكثير من الإسلاميين يدركون طبيعة المرحلة وحجم المسؤوليّة الملقاة على عاتقهم، ولذلك يسعون للتّشارك مع القوى الأخرى في المجتمع لصنع المستقبل، ويبدو أنّ هناك نضجاً ووعياً فاق التّوقّعات فيما يخصّ الحالات التي تقع تحت المجهر الإعلامي حتّى الآن.

هذا النّضج والوعي كشف عن إدراك الإسلاميين بأنّهم تقدّموا للواجهة التّمثيليّة السّياسيّة  عبر انتخابات حرّة ونزيهة، وهذه الانتخابات ليست انقلاباً مكّن الإسلاميين من السّيطرة على الحكم و أحلّ مستبدّاً إسلامياً مكان المستبدّ العلماني، بل إنّ هذه الانتخابات أفرزت تمثيلاً لقوى أخرى في المجتمع، يظهر الإسلاميون حرصاً كبيراً على إشراكها في بناء مستقبل هذه الشّعوب، وهم يؤكّدون أنّ صناعة المستقبل لا ينفّذها حزب بعينه بل تلك القوى الّتي أفرزها الشّعب عبر صناديق الاقتراع مجتمعة.

من تواضع لله رفعه، ومن تواضع للشّعب وخدمه وتفاعل مع مشكلاته رفع بإرادة الشّعب أيضاً، وفوز الإسلاميين بنسب كبيرة يعكس نشاطهم وقدرتهم على لمس هموم النّاس ومتطلّباتهم، ولكن مطلوب من الإسلاميين ما هو أكثر من ذلك، فهذا الفوز الانتخابي ما هو إلا فوز أوّلي، ومن المهم أن يتبعه تواضع لمن لم يحالفه الحظ في الانتخابات من الأحزاب والقوى الأخرى، وهذا يستوجب أن لا يصاب من فاز بالكبر والخيلاء، فالمسلم يتواضع أكثر كلّما حقّق إنجازاً أو انتصاراً، فكيف بأخيه في الوطن؟ هذا التّواضع ضروري لبسط الأرضيّة الملائمة بين كافّة القوى على الأرض ليتمّ إنجاز ما تصبو له الشّعوب بلا معارك جانبيّة لا ضرورة لها، هذا التّواضع ظهر في تونس والمغرب وتظهر ملامحه الآن في مصر، مع توقّعات بأن يستمر في ساحات أخرى قادمة.

أحد البرلمانيين العرب قال في اجتماع انتخابي أنّ برنامجه الانتخابي (سيكون بعد فوزه في الانتخابات وليس قبلها)، وهذا ما كان، هذا الشّعار يجب أن يكون علامة النّجاح لكل من فاز وسيفوز بثقة الجمهور العربي، فالإسلاميون فازوا في الانتخابات بسبب خدمتهم للجمهور، واستمرار هذه الثّقة وتعزيزها في الانتخابات التي ستلي هذه الانتخابات يستوجب نشاطاً أكبر في خدمة الشّعب عن ذي قبل، فالفوز الحالي ليس نهاية المطاف، فالحكّام من اليوم سيخضعون لرقابة ومحاسبة الشّعوب، ومن يرغب بالاستمرار في الحكم عليه التّفاني في خدمتهم، و ثورة الحرّيّة غيّرت نظرة النّاس للمنصب العمومي، و المناصب ليست  تشريفاً لأصحابها بل تكليفاً لهم بخدمة من انتخبهم، وعندما تترسّخ تلك القناعة في عقول من فازوا في الانتخابات، وتجد ترجمةً لها على أرض الواقع، سنجد انجازات هائلة تتحقّق في تلك الدّول، وللثّائرين العرب فيما جرى في تركيا عبرةً من تفاني المسؤولين الأتراك في خدمة الجمهور وقضائهم على الفساد الّذي مهّد لهم القدرة على إنهاء الاستبداد.

بعض القوى وضعت كل ثقلها في معاداة وعرقلة تقدّم الإسلاميين، مستخدمةً فزّاعة الخوف من الاسلاميين، مثلما فعل الحكّام الطّغاة الّذين أطيح بهم قبيل شهور، وبدلاً من نجاح سياستها في تخويف النّاس من الإسلاميين، انقلب السّحر على السّاحر و هجرهم النّاخبون إلى خصومهم، والغريب أنّ من تلك القوى من لا يزال مصرّاً على محاولة عرقلة القدر المتمثّل بالإرادة الشّعبيّة، بعض هؤلاء بدأ يقتنع أنّه لا بدّ له من أن يقرّ بالحجم الّذي منحه إيّاه الشّعب وبدأ يفكّر في المستقبل، فيما يصرّ آخرون على إهانة الإرادة الشّعبيّة واالتّعالي عليها بادّعاء الفهم أكثر من الملايين "المضللّة" بالخطاب الدّيني والمال!!، بالرّغم من أنّ الكتلة التي تمثّل غلاة الليبراليين والماركسيين  استعانت بضخ مالي وإعلامي هائل من رجل أعمال معروف، بالاضافة لتوجيه مرجعية دينيّة كبيرة لجمهورها لدعم كتلتهم، فيما لم يحظ الإسلاميون بدعم الأزهر على سبيل المثال، كما يحاول أعضاء تلك الكتلة الانتخابية الإيحاء بأنّهم هم من يمثّل الثّورة المصريّة في وجه الإسلاميين الّذين يعتبرون أنّهم يريدون سرقتها، مع أنّ الواقع يقول أنّ أغلب اتجاهات تلك الكتلة كانت ضدّ المشاركة في الثّورة المصرية بشكل علني لا يحتمل التّأويل، هذا الخطاب المتعالي سيعزل منافسي الإسلاميين أكثر، لأنّهم يستخدمون نفس خطاب المستبدّين الّذين أهانوا شعوبهم بالقول والممارسة  عندما اتهموهم بالتّفكير القاصر وعدم قدرتهم على اتّخاذ  القرارات السليمة فيما يخصّ خياراتهم الانتخابيّة، وعندما ألبسوا أنفسهم أثواباً ليست لهم في محاولة لادّعاء بطولات لم يقوموا بها مطلقاً.

ولكن لتلك الفئة على الإسلاميين حقوقاً، فلهم حق إنساني وحق ديني وحق وطني، وعلى الإسلاميين أن يسعوا  إلى التّعاون معهم ومشاركتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وعليهم أن يعطوهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، فلا يعني أنّك من الأقلّيّة بأنّه لا حقوق لك، وعنوان التّغيير يكمن هنا، فالإسلاميون مطالبون بمنح هؤلاء حقوقهم حتّى لو أصرّ هؤلاء على خطابهم، فليس مطلوباً من الجميع أن يحبّ الإسلاميين، كما أنّ الحقوق لا تمنح بناءً على الودّ والولاء، لأنّ السّير في هذا الطّريق هو أول خطوات صناعة الاستبداد والظّلم والنّفاق، والإسلام يحارب النّفاق بشراسة "ولا يحتاج  الإسلاميون إلى جمهور من المنافقين"، كما قال الأستاذ راشد الغنّوشي.

معركة الحرّيّة لم تنته بعد، فقوى الاستبداد لا زالت تقاتل وتتآمر وتسعى للعودة إلى الواجهة من جديد، وهذا يتطلّب حشد كل القوى التي أفرزتها الانتخابات لاستكمال تحقيق ما لم يتمّ تحقيقه بعد، ولذلك على الإسلاميين أن يعملوا وفق قاعدة توافقيّة مع الآخرين ويسعوا لكسب ثقتهم للعمل معاً بدلاً من أن يلعب الآخرون على تناقضاتهم مع شركائهم في الخيار الشّعبي.

أغلب الأطراف الّتي كانت تحارب الإسلاميين بدأت بالإدراك بأنّ كل ما كانت تقوم به كان محاولة لمنع أو عرقلة حركة التّاريخ، وأنّ كل هذا الجهد انهار بطريقة مريعة بدايةً من أسوأ قلاع الاستبداد، ولذلك بدأ بعضهم يغيّر خطابه وسلوكيّاته، حتّى أنّ بعض السّاسة العرب بدأ يبحث عن " جذوره الإخوانيّة" فيما يصرّ البعض على الوقوف في وجه "تسونامي" الحراك الشّعبي الحضاري، و يقعون - كما من الممكن أن يقع بعض الإسلاميين - في خطأ تشخيص الحدث الكبير الّذي يجري في العالم العربي، فالقضيّة لا تتعلّق فقط بفوز حركات إسلاميّة في الانتخابات، ولكن ما يجري أكبر بكثير من ذلك، وهذا بحاجة لتفكير وسلوك يختلف عن ما كان يجري في السّابق، فالمرحلة بحاجة لتفكير يترجم لسلوك ينقل عناصر اللّعبة السّياسيّة العربيّة من عقدة الانتصار أو الانتقام أو التّحوصل حول الذّات والجماعة، إلى خطوة صنع المستقبل الحضاري للشّعوب بكل مكوّناتها، فما يجري في العالم العربي أكبر من معارك انتخابيّة صغيرة، بل هو عبارة عن تحوّل حضاري شامل سينقل العرب إلى لاعبين فاعلين على مستوى العالم، إن أحسن قادة التّغيير استغلال الحراك الشّعبي.