فتنة السّلمي

صلاح حميدة

[email protected]

أشعلت وثيقة " المبادىء فوق الدستورية"، أو " وثيقة السّلمي" نائب رئيس وزراء مصر، فتنة لم تنته حتّى الآن؛ حيثيات إخراج هذه الوثيقة وردّ فعل القوى السّياسيّة عليها، والعنف الّذي يجري في الشّارع، والقوى المحرّكة لهذا العنف، وموقف القوى المعارضة للوثيقة من العنف في الميدان، كل هذا بحاجة لقراءة تفسيريّة تخرج بنتائج تستخلص من خلالها العبر في حقل الألغام الّذي تسير فيها قوى الثّورة المصريّة.

يوجد قوى في مصر تسعى بكل ما أوتيت من قوّة لمنع الحركة الإسلاميّة من المشاركة الفاعلة في مستقبل مصر، وهذه القوى تنقسم لعدّة أنواع، فمنها من يعمل من خلال بقايا النّظام القديم الّذي لا يزال فاعلاً حتّى الآن في وزارة الدّاخليّة وبعض الأركان الرّئيسيّة في المؤسّسة العسكرية والمؤّسسات المدنيّة، وما وثيقة " السّلمي" إلا محاولة من هذا النّظام للبقاء في السّلطة من خلف السّتار ومنع التّحوّل الدّيمقراطي و تحقيق أهداف الثّورة.

النّوع الآخر هو بعض القوى الليبرالية واليساريّة التي لا يوجد لها ثقل حقيقي في الشّارع، ذات نظرة استئصالية معادية للفكر الإسلامي، وترفض أيّ تفكير بمنح الحركات ذات الخلفيّة الاسلاميّة بأن تقوم بدورها في الحياة السّياسيّة المصريّة، ولذلك تحرص تلك القوى على الإبقاء على حالة من الغليان والفوضى والمظاهرات ومهاجمة مقرّات الأمن والدّاخليّة تحت عناوين كثيرة، متقاسمة الأدوار مع بقايا النّظام القديم في تبادليّة التّظاهر وقتل المتظاهرين وإبقاء الشّارع في دوّامة العنف والعنف المضادّ، والوصول إلى إلغاء الانتخابات التي بات من المؤكّد أنّ الهدف ممّا يجري هو تأجيلها تمهيداً لإدخال مصر في المزيد من الفوضى والفلتان الأمني لمعاودة إنتاج الاستبداد بطلب شعبي لينقذهم من فوضى الحرّيّة.

يوجد قوى أخرى تسعى لتحريك قوى صغيرة من الفئة السّابقة، وهذه القوى موجودة في مناطق عربيّة لا تخضع فيها المؤسسات الغربيّة لرقابة أمنيّة تعرقل أو تمنع نشاطاتها الاستخباراتية المموّهة تحت عناوين جميلة، فقد ذكر صحفي عربي على فضائيّة عربيّة قبل أيام أنّ هناك مؤسسات غربيّة في منطقة قريبة من مصر تدير حملة إعلامية على الشّبكة العنكبوتيّة، لصالح دعم القوى الشّوارعيّة لنشر الفوضى والتّحريض على الحركات الاسلاميّة، وتصويرها كحركات انتهازيّة تريد قطف ثورة الآخرين وأنّها تريد الوصول للسلطة فقط، وهذه المؤسسات تموّل وتدير المئات من الكتاب ورسامي الكاريكاتير والمعلّقين والمواقع ذات الأسماء العربيّة اللامعة، وهي في الحقيقة عبارة عن واجهة لأجهزة مخابرات أوروبيّة وأمريكيّة، والجدير بالذّكر أنّ هذه ليست اتهامات مجرّدة بلا دلائل بل من السّهل إثباتها، كما أنّ مصادر كثيرة تؤكّد ما ذهب إليه هذا الصّحفي.

الحركة الإسلامية في مصر كانت الثّائر الأكثر تعرّضاً لقمع النّظام المصري منذ عقود، ولذلك لا يمكن القول بأنّ هذه الحركة تتميّز بانتهازيّة تهدف للتّسلّق على الثّورة وقطف ثمارها، فهي دفعت الثّمن الأكبر من بين كل القوى الموجودة على السّاحة السّياسيّة العربيّة، أمّا من يزاودون عليها بثوريّتهم " السّكر زيادة"، فلم يدفعوا إلا الجزء اليسير من الثّمن الّذي دفعته الحركات الاسلاميّة، وأن تكون ثورياً لا يعني أن تكون دائماً في الشّارع، كما أنّ هناك آليّات للوصول لنتائج للثّورة عبر الانتخابات والقنوات السّياسيّة المقرّة في الإعلان الدّستوري، وللحركة الاسلامية الحق – كما لغيرها- بأن تسعى للوصول للسلطة عبر الانتخابات، فقد كانت تتهم بأنّها تريد الانقلاب على الحكومات السّابقة والحصول على السّلطة، وعندما فتح باب العمل السّلمي لها للمشاركة السّياسيّة قامت الأطراف الأكثر تبنّياً للعنف بينها بتأسيس أحزاب ونبذت العنف، وهذا يدلل على أنّ اللجوء إلى التّغيير بالعنف كان بسبب منعهم من المشاركة السّياسيّة السّلميّة وليس بسبب أفكار أو "جينات" عنفيّة!!، كما أنّ العمل السّياسي بهدف الوصول للسّلطة ليس عيباً، فهل من حقّ كل القوى أن تعمل وتصل إلى السّلطة، باستثناء الإسلاميين ؟! هذا بالتّأكيد يعكس نظرة الاستئصاليين الّذين يريدون حرّية وديمقراطية توصلهم وحدهم للسّلطة، وهذا بالتّحديد ما جعل مجموعة من الفاشلين والفاسدين والعملاء تحكم العرب منذ عقود.

بعض من يتّهمون الحركة الاسلاميّة بالانتهازيّة يتّصفون بها في أبشع صورها، أو لنقل إنهم يسقطون ما في أنفسهم على الآخرين، كما في المثل العربي: ( رمتني بدائها وانسلت)؛  فقد استغلّوا الحركة الاسلامية في الوصول إلى ميدان التّحرير عبر مليونيّة رفض وثيقة السّلمي، ودخلوا الميدان تحت عباءة وحماية الاسلاميين، ثمّ اعتبروا أنّهم هم أصحاب العلامة المسجّلة في منح رخص الدّخول والخروج من الميدان، ووضعوا أنفسهم قضاة يحكمون على النّاس ويصنّفونهم بين الثّوري وغير الثوري، وأخذوا مصر ومستقبلها رهينة بيدهم عبر الاستمرار في مهاجمة وزراة الدّاخليّة وقوّات الجيش، وهدفهم - كما يعلنون- تنازل الجيش عن إدارة المرحلة الانتقالية لشخصيّة قريبة للغرب بصلاحيّات مطلقة، صلاحيّات تشريعيّة وتنفيذيّة توضع بيد شخص واحد، وهذا عين الاستبداد الّذي لم يكن يتمتّع به أيّ زعيم عربي على الإطلاق، والسّؤال الّذي يطرح نفسه، بما أنّ المرحلة الانتقاليّة بدأت بالانتخابات وأعلن الجيش عن التزامه بجدول زمني واضح لنقل السّلطة، وتبيّنت قدرة الشّارع المصري على الضّغط على من يحكمه بالخروج للشّارع بطرق سلميّة، فلماذا يصرّ بعض النّاس على رفض خيار انتقال السّلطة عن طريق الانتخابات؟.

بعض معادي وحاسدي الإسلاميين يتحجّجون بأنّ الإسلاميين سيكتسحون الانتخابات لشعبيّتهم الكبيرة، التي حازوها بسبب خدمتهم للجمهور وتواصلهم مع كافّة فئات المجتمع وقدرتهم على بناء مؤسّسات اقتصادية تغنيهم عن المساعدات الخارجية ولقدراتهم التّنظيميّة والإداريّة المميّزة، فضلاً عن قدرتهم على التّواصل مع شرائحها المختلفة ويستطيعون حل مشاكلها وتحقيق أفضل الخدمات لها، هذه الاتهامات عبارة عن دعاية انتخابيّة للإسلاميين، فالشّعوب العربيّة تبحث عن من يستطيع خلق فرص اقتصاديّة تشغيليّة داخل الأوطان، يستغني عن المساعدات الخارجيّة ويحقّق الاكتفاء الذّاتي ويمنع ابتزاز الشّعب بما يسمّى بالمساعدات الخارجيّة المشروطة بالفساد والاستبداد، ورهن القرار الوطني بيد الدّاعمين، والشّعوب العربيّة تريد قوى نظيفة الكف تدير موارد الأمّة بشفافيّة ونزاهة، مستحضرة رقابة الله فوق رقابة النّاس، والشّعوب العربيّة تريد قادة يتميّزون بقدرات عالية على التّنظيم والانضباطية والعمل الجاد المخطّط له بدقّة، فما دام الإسلاميون يتمتّعون بكل تلك المواصفات – كما يشهد خصومهم وأعداؤهم- فهذا ما تبحث عنه الشّعوب، ومن يفتقد دعم الشّعب فهو مدعو ليتمتّع بالصّفات التي جعلت الإسلاميين يتمتّعون بثقة تلك الشّعوب، فهل مشكلة الاسلاميين أنّ الكثير من خصومهم فاشلون وفاسدون؟ وإذا كان الإسلاميون يتمتّعون بكل تلك الصّفات وهم تحت الضّغط والملاحقة، فكيف إذا منحوا فرصة العمل بلا ملاحقة وبلا ضغوط؟.

اللافت في الحالة العربيّة الرّاهنة أنّ حرّيّة الشّعوب اقترنت بحرّيّة الإسلاميين، وبالتّالي أظهر الاسلاميون – أغلبهم- نضجاً وتفهّماً للآخر المختلف في المجتمع، وأثبتوا في تونس وغيرها أنّهم دعاة مشاركة لا دعاة إقصاء، وما ظهر بوضوح أنّ المشكلة غالباً ما تكون في غير الإسلاميين، فعندما يدعو الإسلاميون القوى الأخرى لمشاركتهم والتّحالف معهم في مصر والمغرب وليبيا وتونس واليمن وغيرها، يقف آخرون يرفضون أيّ نوع من أنواع المشاركة معهم، فيما أظهرت بعض القوى نضجاً وتشاركت معهم في رسم معالم المستقبل كما جرى في تونس، ليشكّلوا رافداً ونموذجاً ناجحاً للثّورات العربيّة الّتي لحقت بهم.

ارتباط حرّيّة الاسلاميين بحرّيّة الشّعوب يفرض عليهم مسؤوليّات كبيرة، وبالتّالي فهم مطالبون بعدم الانسياق وراء حالات الاستفزاز، وخاصّة ما جرى ويجري في الحالة المصريّة، ولكن المطلوب من الإسلاميين أن يسعوا إلى توسيع دائرة تحالفاتهم إلى أكبر درجة ممكنة، وأن يقوموا بالتّواصل مع كل القوى على السّاحة في أقطارهم، وهم مطالبون بالمرونة كلّما كان ذلك ضروريّاً وممكناً، فخلق أجواء الأزمة والفوضى الحاليّة في مصر من قبل بعض القوى يهدف لجرّهم إلى العمل من خلال ردود الأفعال، فهم في هذه الحالة الهدف من الهجمات الإعلاميّة والميدانيّة التي تهدف لتشويه مواقفهم واستفزازهم للنّزول للشّارع، ومن ثمّ إمّا أن يتم جرّهم لصدام مع الأمن وتكرار التّجربة الجزائريّة كما أعرب بعض مثيري الفوضى عن رغبتهم قبل أسبوعين، أو أن يتم استدراجهم لصدام مع قوى الفوضى والاستئصال في الشّارع.

ولذلك فهم مطالبون بإثبات عكس ما يتّهمون به من خلال المرونة واستيعاب الآخر المختلف دينيّاً وثقافيّاً وفكريّاً وسياسيّاً، وهم ملزمون بالعمل الواعي في مواجهة الأزمة الحاليّة ووزن تصريحاتهم وتصرّفاتهم في وضع تكال لهم فيه الكثير من الاتهامات، فهدف الحالة الراهنة خلق ظروف تمنع وصول الإسلاميين للسّلطة، إمّا بوقف وإلغاء الانتخابات أو بتشويه الإسلاميين في عيون النّاس من خلال الحرب الإعلاميّة المنظّمة من قوى داخليّة وأخرى خارجيّة، وهذه الحالة بحاجة لخطط إعلاميّة وميدانيّة تفشل هذه الحملة من خلال إثبات عكسها بالممارسة الواعية على أرض الواقع.

يميل بعض النّاس للتّسطيح والشّخصنة في القضايا والفتن الكبرى، وقد يؤخذ القارىء من خلال العنوان إلى أنّ كل ما يجري في مصر حاليّاً يلقى على عاتق الدكتور السّلمي، وهذا غير المراد من كل ما سبق، فالسّلمي عنوان للأزمة وواجهة لها فقط، ولكنّ اللاعبين من خلف السّلمي، ومن وأمامه ومعه كثيرون، ولذلك ينبغي الإدراك بانّ خلف مثيري الفتنة مؤسّسات وأفراد وقوى كثيرة، قوى يجب التّعامل معها بطريقة تتفادى الوقوع في براثن مخططاتهم، بل وتحبط تلك الفتن وتحاصرها وتمنع تداعياتها الضّارة على مستقبل الشّعب المصري، وشعوب الأمة جمعاء.