الإنجليز السمر والاستقلال الوطني

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

عقب جلاء الإنجليز عن  مصر عام 1956م ،  قال الشهيد سيد قطب – رحمه الله – معقبا على الحدث : خرج الإنجليز الحمر ، وبقي الإنجليز السمر !

كان الشهيد الذي لم يساوم على قضية الحرية يقصد أن الإنجليز المستعمرين قد رحلوا بعساكرهم وقواتهم وعتادهم ، ولكن بقي الموالون لهم من بني جلدتنا الذين يحققون غاياتهم وأهدافهم ولو لم يقصدوا ، دون أن يجدوا مقاومة من الشعب المصري ، الذي لن يحارب أبناءه ولن يواجههم كما واجه المستعمرين . لقد كان المستعمرون الغزاة يعاملون الشعب المصري معاملة العبيد ، يحتلون بلاده ، وينهبون ثرواته ، ويحرمونه من بناء بلاده ، والتمتع بالحرية الحقيقية والديمقراطية والكرامة ،  وقد بذل المصريون منذ الاحتلال الإنجليزي عام 1882م الغالي والنفيس من الدماء والأموال من أجل الاستقلال ، ولكن الغزاة على مدي ما يقرب من سبعين عاما استطاعوا أن ينشئوا مجموعات موالية لهم ، متشبعة بثقافتهم التي تكره الإسلام والمسلمين والعرب والعروبة ، وتنظر إلى الآخر غير ألأوربي وغير الأميركي نظرة عنصرية دونية ، تحتقره وتستذله كلما أتيحت لها الفرصة ، ويوم خرج الإنجليز اطمأنوا إلى أن خلفاءهم من بني جلدتنا لن يفرطوا في فلسفة من علموهم وسلموا لهم زمام أمورنا ، وعشنا مذ خرج الاحتلال حتى 11فبراير 2011 ، ونحن محرومون من الحرية والكرامة والشرف ، ونعيش هزائم عسكرية وحضارية غير مسبوقة ندفع ثمنها كل صباح ، وبعضهم – يا للمفارقة – يعيرنا بأن الإنجليز السمر منحونا التعليم المجاني ولولاه لكنا رعيان غنم !  وكأن التعليم المجاني يدفع ثمنه السادة الذي يحكموننا من جيوبهم ، وليس من جيوبنا نحن الفقراء ، ثم إننا ندفع ثمنه مضاعفا مرتين : دروسا خصوصية ، وكتبا ومذكرات ومتاعب وعناء . وكأن رعيان الغنم محقرون مهانون ، مع أن مهنتهم مهنة الأنبياء والشرفاء ، خاصة إذا عاشوا أحرارا يملكون إرادتهم وحاضرهم ومستقبلهم .

الإنجليز السمر متعلمون ومثقفون ويهيمنون على مفاصل الإدارة والثقافة والتعليم والنظام في الدولة ، وفلسفتهم مهما اختلفت مشاربهم ومعتقداتهم تتلخص في احتقار الشعب وامتهانه ، وإقصائه عن المشاركة في الحكم وتقرير مصيره ، ويرونه غير مؤهل للشورى أو الديمقراطية أو صناعة المستقبل ، ولم يخجل رئيس وزراء سابق يقبع الآن في سجن طرة ، من القول إن الشعب المصري لا يصلح للديمقراطية أو إن الديمقراطية لا تليق به ، ولا تجوز له ، وذلك في معرض إجابته على سؤال حول تطبيق الديمقراطية في مصر ، من خلال نظام يقوم على الحرية الحقيقية .

والإنجليز السمر يرفضون الدين ، إسلاما أو مسيحية ، ويرون الدين موضة قديمة تجاوزها العالم المتحضر (؟!) وعصر الحداثة والليبرالية والعلمانية والتقدمية والاستنارة ، وتبدو شوكتهم  قوية على الإسلام خاصة ، لا يكفون عن هجائه وتسفيهه وتشويهه ورميه بما ليس فيه ، ويشعرون بالاشمئزاز والتأفف إذا ذكرت البسملة أو آية كريمة أو حديث شريف أو حتى تحية الإسلام : السلام عليكم !

ويكفى أن تكون التربية الدينية في التعليم بأنواعه مادة زائدة عن الحاجة لا تدرس ، ولا تضاف إلى المجموع ، وقبل ذلك تم اختزالها في حصة واحدة في التعليم العام . ومن المفارقات أن أقسام الدراسات الإسلامية في كليات الآداب تضم معيدين ومدرسين وأساتذة لا يحفظون القرآن الكريم إلا من رحم الله ! بل إن بعضهم يتبنى التفسير الماركسي أو الغربي للإسلام !

إن الإنجليز السمر يحتقرون لغتهم العربية ، ويكرهونها كراهية شديدة ، ويسعدون بالسخرية منها حين يسخر منها المهرجون والأراجوزات في مسرحياتهم الهزلية ومسلسلاتهم البائسة ، وأذكر أن الأديب الراحل أحمد أمين قال ذات مرة : إنه لا يستمع إلى خطب رجال يوليو ، لأنهم يؤدونها بالعامية ، أو بفصحى مشوشة وغير منضبطة .

وما بالك بلغة يهتم الطلاب المنتسبون إلى ثقافتها وقيمها بالإنجليزية والفرنسية أكثر مما يهتمون بها ؟ بل إن درجة الإنجليزية والفرنسية في التعليم الثانوي المصري العربي كانت أكبر من درجة اللغة العربية بفروعها المختلفة ، وتمت مساواة الدرجة بعد غضب شعبي عبر عن نفسه في احتجاجات متعددة ، استنكرت أن تكون اللغات الأجنبية أهم من اللغة القومية ؟! يحدث ذلك في الوقت الذي يقوم فيه العدو النازي اليهودي في فلسطين المحتلة ببعث لغة قديمة ظلت مطمورة تحت  التراب آلاف السنين ، وجعلها لغة التعليم والبحث العلمي واللغة اليومية بين أفراد شعب ينتمي أفراده إلى ثقافات متعددة ولغات شتى وعناصر مختلفة ، ثم جعلها لغة الإعلام والثقافة والدبلوماسية والمؤتمرات العلمية والصحفية ، بينما الإنجليز السمر يخجلون من لغتهم العربية في الداخل والخارج ، ويعدونها لغة ميتة لا تصلح للتعامل مع العلم أو العالم !

ثم إنهم لا يبالون بقيم المجتمع ولا مواضعاته ، ويرون أن الناس في هذا الوطن مجرد دمى يجب أن تخضع لإرادتهم وأفكارهم ونظرياتهم مهما بلغت من الغلو والشذوذ ، وإلا فإنهم متخلفون ورجعيون وجاهلون وظلاميون !

كان إمام البيان في العصر الحديث " مصطفي صادق الرافعي" يشرح معنى الاستقلال الوطني ، وينظر إليه نظرة تتجاوز ما هو معروف لدى الناس والسياسيين عامة ، من خروج جيش الاحتلال، وحكم البلاد بمعرفة شعبها وأبنائها.. إلى أن الاستقلال الحقيقي يعني سلامة مقوماته الثلاثة: اللغة والدين والعادات من التشويه والتغيير والتعديل. فهذه المقومات كانت دائماً وما زالت هدفاً للمؤامرات الاستعمارية، وضياعها يعني ضياع الوطن واستقلاله الحقيقي ( وحي القلم ، 3/32 وما بعدها ).

إنه ينظر إلى الاستقلال الحقيقي للأمة العربية من الناحية الإنسانية والحضارية  ، فلا يقوم إلا على أساس من الدين الإسلامي واللغة العربية، وبذلك ينفتح الطريق إلى الوحدة العربية..ويلاحظ أن «الرافعي» كانت له لمسة في غاية الدقة حين أشار إلى أن الساسة في الغرب، قد ساعدوا في توضيح صورتنا أمام أنفسنا، وأننا ينبغي أن نفيد من مخططاتهم لإصلاح واقعنا، ومواجهتهم بما يتلاءم مع قدرنا، وطبيعتنا وهويتنا «فإن نحن أخذنا من النظامات السياسية فلنأخذ ما يتفق مع الأصل الراسخ في آدابنا من الشورى والحرية الاجتماعية عند الحد الذي لا يجور على أخلاق الأمة ولا يفسد مزاجها ولا يضعف قوتها» ( السابق ،3/174 )

وللأسف فإن بعض الناس يردد مقولة : على أي شيء يطاردنا الغرب ونحن نشبه الجثة الهامدة !  ولماذا يتآمر علينا ونحن لا نملك شيئا ؟ إنه تفكير الإنجليز السمر الذين لا يتجاوز تفكيرهم حدود ذواتهم ، أما الإنجليز الحمر وحلفاؤهم فقد كانوا إلى شهور مضت يعدون مصر وليس رئيسها المخلوع وحده ؛ كنزهم الاستراتيجي الذي يحقق لهم وهو جثة هامدة أغلى ما يريدون ، لأن الجثة الهامدة تترك للطامعين سواء كانوا الغرب أو أميركا أو الصنيعة التي تحتل فلسطين  فرصة النهب والسطو والقتل الجماعي للعرب والمسلمين ( تأمل ما حدث في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال على سبيل المثال !) .

إن بناء القوة الذاتية على أسس الحرية والعدل والشورى ؛ يقتضي تحرير البلاد والعباد من احتلال الإنجليز السمر لمصر الذي استمر ستين عاما من أقسى السنوات وأشدها صعوبة على مصر عرفت فيها أبشع أنواع الاستبداد والفساد والقمع والقهر والتخلف ، ولا أعلم طريقة سديدة للتحرير من هؤلاء غير الإقناع أن عنادهم وإصرارهم على حرمان  الشعب من حريته وثمار ثورته لن يكون أمرا سهلا أو هينا بعد أن عرف الناس طريقهم إلى ميدان التحرير ، وكل ميادين التحرير في أرجاء مصر . لقد ظل رموز النظام البائد يعاندون ، وفاخروا بأنهم يملكون دكتوراه في العناد ، حتى جاء أمر الله وأسقطهم من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون ، وينبغي على أتباع هذا النظام من الإنجليز السمر أن يقتنعوا أن إرادة الشعب من إرادة الله ؛ جل وعلا ، الذي لا يرضى بالظلم والطغيان وقهر الأغلبية من جانب الأقلية التي تصر على فرض إرادتها ولا تخجل من استخدام الكذب وقلب الحقائق والوسائل الميكافيلية لتسويغ هذا القهر وتمريره وتحويله إلى أمر واقع ..

إن الهيمنة على الإعلام وإمبراطورياته ، والصحافة والمنتديات المختلفة ، وقوة المال الحرام ، لن تستطيع الوقوف أمام شعب صحا من نومه الطويل ، وواجه الرصاص بصدره العاري دون خوف أو وجل ، والأولى أن يتفاهم الشركاء المعنيون جميعا للاعتراف بالحقائق على أرض الواقع ، وحل مشكلات الوطن بدءا من توفير رغيف خبز غير مسموم حتى إصلاح الإدارة البيروقراطية مرورا بأنبوبة البوتاجاز وتعمير سيناء وحفر القناة الجديدة على حدود مصر وفلسطين من طابا إلى العريش ، وتشكيل شرطة جديدة تحمي البلاد والعباد قبل أن تحمي الكراسي ، وإصلاح التعليم ، واستعادة الثقافة القومية ، وتطهير الإعلام ، وبناء الثقة بين الحاكم والمحكوم ، والحفاظ على كرامة المصري في الداخل والخارج ، ووقف نزيف الإسفلت والعبارات والقطارات ، وتحرير الفلاح المصري من المرابين والنصابين الوطنيين ، وإقامة العدل بين بني الوطن جميعا !

أليس ذلك خيرا وأفضل للإنجليز السمر والشعب معا ؛ من الحروب الليلية على شاشة التلفزيون وصفحات الصحف العامة والخاصة ؟