داعش، ومحاولات بناء جدار الخوف

م. عبد الله زيزان

[email protected]

جدار الخوف في سورية

منذ أن استقلت سورية من الاستعمار الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي لم تستطع أي مجموعة سياسية أو عسكرية إحكام سيطرتها على البلاد، ما أدى حينها إلى وقوع العديد من الانقلابات العسكرية، حتى باتت الانقلابات عنوان تلك المرحلة من عمر البلاد، واستمر الحال، حتى وصول حزب البعث إلى السلطة، حيث بدأ حينها بناء جدار الخوف لدى المواطن السوري من خلال قبضة أمنية قاسية بلغت ذروتها مع وصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم عام 1970.

وقد علم الأسد حينها أنه لإحكام السيطرة على البلاد، وضمان عدم انقلاب العسكر عليه، لا بد له من ترهيب الشعب وعلى رأسهم المثقفين، لإخضاعهم لسلطته وإجبارهم على القبول به حاكماً دائماً للبلاد، وقد استند الأسد في حكمه على عُكازين أساسيين، عُكاز للسيطرة على الداخل السوري، والآخر لإسكات العالم في الخارج..

فبنى حكمه على كذبة حماية الأقليات، ليحظى بالتأييد الخارجي للبلاد وهو عكازه الأول، ليكون العكاز الثاني كذبة المقاومة والممانعة، ليحظى بتأييد داخلي، ولتكون "خرقة" يمسح بها سوءته أمام شعبه، ولتكون أيضاً مبرراً لكل جريمة يرتكبها، ولكل صوت يخرسه، ولكل منتقد يُنهيه قتلاً أو سجناً أو نفياً، فاستطاع الأسد بذلك استكمال بناء جدار الخوف لبنة لبنة حتى ورّث الحكم لولده الذي سار على نهج أبيه...

انتهاء أسطورة جدار الخوف

مع انطلاقة الثورة السورية ربيع 2011، أحدث الثوار السلميون حينها خرقاً في ذلك الجدار المتين الذي بناه طغاة الشام على مدى عقود، وتمكنوا يوماً بعد الآخر من هدم ذلك الجدار حتى لم يبق منه إلا الوهم في عقول بعض الجبناء الذين تمكن الخوف من قلوبهم وعقولهم، ليبقوا عبيداً لآل الأسد بعد أعوام الثورة الأربعة...

وقد فشل الأسد ومن خلفه مستشاروه أو قل موجهوه الإيرانيون والروس في ترميم ذلك الجدار، فضلاً عن إعادة بنائه، سواء في المناطق المحررة أو حتى تلك التي لا تزال تحت نير الاحتلال الأسدي، فقد تكشف للشعب السوري حقيقة النظام وكذلك أولئك المتاجرون بقضايانا الأساسية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية..

داعش تبني ما هدمه الثوار

يعلم أعداء الشعب السوري أنّ هذا الشعب لا يمكن إخضاعه بسهولة، ولا يمكن لهم السيطرة عليه إلا بالتخويف والترهيب، ويعتقد أولئك الأعداء أنّ حرية الشعب قد تكون مقدمة لنهاية النفوذ الغربي في المنطقة، وربما حتى نهاية حليفتهم "إسرائيل"، لذلك ومنذ انطلاق الثورة لم يهدأ لأعداء الأمة بال وهم يخططون ويدرسون أوضاع المنطقة، وقد بدا تخبط الغرب واضحاً في بداية الثورة فقد فشلوا في حسم أمرهم بادئ الأمر، إلا أن الأمور الآن تغيرت بظهور وتمدد تنظيم البغدادي الذي يخدم مصالحهم ويحقق مآربهم..

لقد تمكنت داعش من تأسيس جدار الخوف في المناطق التي سيطرت عليها في سورية، فبات أهل المنطقة التي تخضع لسيطرتهم يقعون تحت قبضة مشددة، يخشون التعبير عن رأيهم، فإذا كان النظام السوري يستند في حكمه على القضية الفلسطينية زوراً وبهتاناً، فإن داعش تستند على الدين الإسلامي زوراً وبهتاناً هي الأخرى، فالمخالف للرأي مرتد كافر يستحق قطع الرأس، بل والصلب أحياناً، ليكون عبرة لغيره، وهو ما أدى إلى إسكات كل الأصوات المناوئة لحكمهم في مناطق سيطرتهم...

لقد عملت داعش منذ توسع نفوذها على إخافة الشعب وترويعهم تماماً كما فعل النظام السوري لتثبيت حكمه في البلاد، وقد سمح الغرب لهذا التنظيم بالتمدد والتوسع تحت مرأى ومسمع منها، حتى سيطرت على منابع المال والنفط، وباتت تمتلك ترسانة عسكرية كبيرة، لتبدأ بعدها مسرحية الضربات الجوية التي أعطتهم شرعية أمام أعضائها، وتثبيتاً لطريقهم أمام "إخوة المنهج"، مما زادهم قوة وتوسعاً ونفوذاً...

زراعة كيان جديد

إنّ سكوت المنظومة الغربية أمام جرائم داعش طيلة الفترة الماضية، وسماحهم لها بالتمدد والتسلح بالمال والذخيرة، يذكرنا ببداية نشوء "الجمهورية الإسلامية" في إيران، فقد رفعت إيران شعار "الموت لأمريكا" بوصفها الشيطان الأكبر، إلا أنّ الواقع كان يشير إلى غير ذلك، فقد دعمت أمريكا هذا الكيان بصورة غير مباشرة، وسمحت له بالحصول على مختلف أنواع الأسلحة والتكنولوجيا، في الوقت الذي لم يسمح الغرب بدويلة صغيرة في أفغانستان أو الصومال أن ترى النور تحت مسمى "الإسلام"، واستطاعت القضاء على أحلامهم هناك بفترة وجيزة، في الوقت الذي يتحدث فيه "الاستراتيجيون" الأمريكيون عن الحاجة إلى سنوات وربما عقود للقضاء على داعش...

تضخيم الغرب لقوة داعش والحديث عن طول أمد المواجهة معه، وعجزه عن الوقوف بوجهه وحسم المعركة لصالحه يشير إلى أننا أمام مشروع مشبوه لزراعة كيان جديد في المنطقة، يوازي الكيان الصفوي في إيران، والكيان الصهيوني في فلسطين، وكما أن الكيانين الأوليين اعتمدا على إرهاب الشعوب وبث الخوف بينهم، فإن الكيان الجديد "داعش" أيضاً يعتمد على تلك الاستراتيجية...

مواجهة المخططات الجديدة

إن الحديث عن هذه المخططات ومحاولة تفكيك رموزها والكشف عنها لا يعني الركون لها وكأنها أمر واقع لا مفر منه، بل علينا مواجهة هذه المخططات بمخططات أخرى،  وهذا لا يكون إلا بتوحد المخلصين من أبناء الوطن، تاركين وراءهم المصالح الخاصة والأمجاد الشخصية...

فإذا ما كان إنشاء الكيانين القديمين بُني على غفلة من الشعوب وجهل منها، فإن التعويل الآن على وعي الشعوب في مقاومة أي كيان جديد في المنطقة، بل ومقاومة الكيانات السابقة التي كانت سبباً في كل مشاكلنا ومصائبنا...