المال الطائفي والجوائز الأدبية 3

المال الطائفي والجوائز الأدبية (3 – 6)

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

تتابع السيدة المسيحية " مرام " ، والدة ماجد عبود ، سرد جوانب من حياتها في سياق حديثها عن واقعها الجديد في القاهرة ، وتعود إلى الفترة التي قضتها في أسيوط ، فتشير إلى رؤية المسلمين للمدارس التي أنشأها الغرب الاستعماري في العاصمة وبعض المدن المصرية الكبيرة ، فتقول :

[ عملت بالتدريس في مدرسة من مدارس الإرساليات الأجنبية التي يقول عنها المسلمون " مدارس التبشير المسيحي " في الصعيد . مرتباتها جيدة برغم ما يقال عن الطابع التطوعي للعمل فيها ، والطلاب أغلبهم من المسيحيين ..] ص 118 – 119 .

ويبدو أن السيدة مرام لا تعلم أن الكنيسة الأرثوذكسية كانت طوال القرن التاسع عشر تستغيث بالخليفة العثماني ليمنع المنصرين الكاثوليك والبروتستانت من تحويل الأرثوذكس إلى مذهبيهما ، فصدر الفرمان العثماني المسمى بالخط الهمايوني لحماية نصارى مصر من التنصير الغربي ، وعرفت المدارس التي أقاموها بمدارس التبشير المسيحي لدى المسلمين والنصارى على حد سواء ، ولكن المتمردين الطائفيين في كنيسة شنودة يتجاهلون ذلك ، بل يغالطون ويكذبون ويبتزون.. وهو ما أنتج جيلا نصرانيا مسكونا بالتعصب والانعزالية والانفصالية وكراهية شركاء الوطن ، وفقا لمنهج مدارس الأحد وجماعة الأمة القبطية ، وفكرة الشهادة التي أرساها رئيس الكنيسة الحالي منذ جلوسه على كرسي مار مرقص عام 1971م.

وتتحدث السيدة مرام عن زوجها المهاجر ... وقصة هروبه بجلده وفقا لتعبيرها في الرواية ، واهتمام الصحافة الغربية بحكايته المفتعلة وتصويره ضحية للمسلمين الإرهابيين الذي يضطهدون النصارى ، ويتعاملون معهم بمنتهى القسوة والوحشية : [ منحته الصحافة العالمية أسماء جديدة : " المبعد "؛ " المطرود "؛ " المسيحي الذي أبعده المسلمون عن بلده " ؛ " الهارب من إرهاب المتطرفين في مصر ". وراء كل مبعد قصة ، وهذه حكاية لمن تمكن من الفرار بجلده في اللحظة الأخيرة ] ص 122 .

وتصور السيدة مرام المسيحية قسوة المسلمين على النصارى ، عبر تهديداتهم التي لا تنقطع ، وتقارن بين حال زوجها الذي هرب وحالها مع ابنها وهما يتعرضان لهمجية المسلمين ، الذين تركوا زوجها يهرب دون أن يمسه سوء.. كيف ؟ وهل هذا الأمر مقنع فنيا ؟ تقول السيدة مرام : 

[ عاودت التهديدات وصولها إلينا ، كأن التاريخ المرّ يصر أن يعود من جديد ، ما جرى مع عبود ، وكان يحكيه لي ، ها هو يجري معي ومع ابنه ، حالته أفضل منا . يملك وسائل الهروب . أما نحن ، فأمامنا التهديدات ووراءنا التهديدات . هددوني بخطف ماجد وهو عائد من مدرسته ، وخوفوني بإلقاء ماء النار على وجهي ، أسلوب العصا ... والعصا !] ص 123 .

وفي سياق تحليل السيدة مرام المسيحية لهروب زوجها ونجاته من الاضطهاد الإسلامي ، وضحكه عليها وعلى ابنها ، دون أن تتحرك لديه غريزة الأبوة على الأقل بالعطف على أسرته ، فتشير إلى نذالته الضمنية ، ومحاولة التعلل بالاستعداد لاستقبال الزوجة وولدها ، ولكن الأخطر من ذلك هو الحديث عن عدد النصارى الذين تقصر عليهم صفة الأقباط ، مع أن كل سكان مصر مسلمين ونصارى وغيرهم أقباط ، فتقول إنهم اثنا عشر مليونا :

[ مرت أيام وأسابيع وشهور وسنوات ، ولم ينته من ترتيب أحواله ! يضحك على من ؟ حتى لو كان يستعد لاستقبال أقبط مصر جميعا ، الاثني عشر مليون قبطي الذين يعيشون في البر ، ما احتاج إلى كل هذا الوقت؟ ... ] ص 127 .

وبلا شك فالمرأة هنا صوت للكاتب ،وهي صوت زاعق وفج وكاذب أيضا ، لأن مؤسسة بيو الأميركية ثم الفاتيكان ، قد حسما مسألة عدد غير المسلمين الذي لا يتجاوز أربعة ملايين ونصف مليون تجمع كل الطوائف المسيحية بمذاهبها المتعددة .. فإذا افترضنا أن الكاثوليك يبلغون مليونا ، والبروتستانت يبلغون ربع مليون ، وأتباع مكسيموس الذين يتزايدون باستمرار قد وصلوا على مائة وخمسين ألفا عدا بقية الطوائف ، فإن أتباع كنيسة شنودة التي تدعي الاضطهاد وتريد أن تفرض إرادتها على الأمة كلها بما فيها الطوائف المسيحية المخالفة ، وترى أن المسلمين غزاة ، وان العرب بدو متخلفون.. يبلغ عدد أتباعها ثلاثة ملايين على الأكثر ، ولكن يبدو أن مؤلف الرواية أراد أن يقنع القارئ بالقوة أن القوم قوة هائلة ينبغي الخضوع لها بحكم العدد ، وليس بأخلاق الإسلام التي تحض على البر بغير المسلمين ، والإحسان إليهم ، والعدل معهم ؛ طالما لم يقاتلونا ، ولم يخرجونا من بيوتنا وأراضينا ، ولم يسيئوا إلينا .. ولكن للكاتب رأيا آخر، أو للسيدة مرام رأيا آخر !

وهذه السيدة فيما يبدو حريصة على انتقاد السلطة أيضا ، وليس عامة المسلمين وحدهم ، فهي تستنكر ضمنا عدم منح لقب الأم المثالية لامرأة مسيحية في  الاحتفال السنوي بيوم الأم في شهر مارس ، وهو استنكار نؤيده بكل قوة ؛ فالمرأة – أي امرأة - تستحق اللقب إذا أثبتت أنها أوقفت حياتها ، على أولادها، وضحت من أجلهم في غيبة الأب ، ولكن واقع الحال يشير إلى أن أغلبية النصارى إن لم يكن كلهم يعيشون حياة مريحة ، وأن الكنيسة تتكفل بالفقراء والمحتاجين ، فيحيون حياة جيدة بالقياس إلى المسلمين الذي يعيش أغلبهم تحت خط الفقر ، كما تقول التقارير الدولية والمحلية ، تقول السيدة مرام في غمزة يظهر فيها صوت الكاتب مع أنه يحاول إخفاءه ، ولكنه لا يستطيع :    

[ تربية ماجد تعطيني الحق في لقب الأم المثالية على البر كله . هل سبق أن كانت الأم المثالية من ديانتي نفسها ؟ لست متأكدة من ذلك ؟ ] ص 131 .

وفي كل الأحوال تنسي السيدة مرام أنها لم تعان إلا شهورا قليلة أو ما يقرب من سنة ، عقب انتقالها من أسيوط إلى القاهرة ، ثم هجرة زوجها الذي ضحك عليها وعلى ابنه ، ولو أنها عانت

مثل بقية النساء المسلمات الفقيرات المكافحات سنوات طويلة تؤكد بطولتها ؛ لكنت من أوائل الذين يطالبون بمنحها اللقب المأمول .

إن السيدة مرام تنطق بلغة أخرى غير اللغة الطبيعية لامرأة في مثل حياتها ، نشأت في بيئة الصعيد الطيبة المتسامحة المتضامنة في السراء والضراء ، بدليل أنها تدعي أمورا لا وجود لها في الواقع ، هل يتصور أحد أن يقوم المسلمون بسكب البنزين على بيت النصراني وحرقه في وضح النهار ؛ لأنه استعان بمربية مسلمة لابنه ؟ هل المسلمون يتعاملون مع غيرهم بمنطق الولاية ؟ إن السيدة مرام تنطق بصوت الكاتب الزاعق المتحامل ، فتقول :

[ .. فهل أجرؤ على إحضار مربية مسلمة ؟ لو فعلت هذا لسكبوا البنزين على بيتي وأحرقوه في عز النهار ، ولامتنع الجميع عن إطفاء النيران . هل سأعود إلى عنب ديبة ؟ إلى حكاية والد ماجد ، ومشكلته في عمله ؛ إلى السؤال القديم : ولاية من على من ؟! ] ص 132 .

وتذهب السيدة مرام إلى أبعد من ذلك التحامل والادعاء الكاذب ، فتري أن أصحاب الذقون أو " السنية " سبب كل ما حل بالنصارى وبالبلد .. إنهم رمز الدم ، وهم يشبهون الأفاعي والثعابين ، ويذكرها الأذان بهم خمس مرات في اليوم :

[ شاهدت أصحاب الذقون ، الذين يسميهم الناس " السنية " ، أعتبرهم السبب في كل ما حل بنا . طردوا عبود خارج الحدود ، وتسببوا في هجرتي إلى حيث أعيش، وأوصلونا إلى حالنا . هم السبب في كل ما جرى في البلد . .........  مجرد وجودهم يصبغ السماء بلون الدم . عندما أنام أحلم بهم ، على شكل أفاع وثعابين . أستيقظ من نومي قلقة من كوابيسهم التي تأتيني . أحاول نسيانهم ، صوت الأذان الذي لا مفر منه ، ويتكرر خمس مرات في اليوم ، يذكرني بهم ] ص 134 – 135 .

إلى هذا الحد يا مرام ؟ أو من تقف وراء مرام ؟ يصبح الأذان الذي سمعه النصارى على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان ، رمزا للقتلة والسفاحين والأفاعي والثعابين ؟