الكتاب.. وليست الجامعة أو التلفاز

أ. د. عماد الدين خليل

أ. د. عماد الدين خليل (*)

كنت دائماً أقول لطلبتي في الجامعات: إن مائة سنة من الدراسة والتلقي في المدارس والمعاهد والجامعات.. ومعها مائة سنة أخرى من الجلوس أمام الشاشة التلفازية (الكمبيوتر والإنترنت والفضائيات.. إلخ ) لن تُخرج مثقفاً ولا باحثاً ولا مفكراً ولا أديباً ولا مبدعاً.. ولكنها ستُخرج أجيالاً من «المتعلمين» الذين لا يملكون القدرة على الإضافة والإبداع والتأليف والتفكير المنتج والجاد..

إن الذي يُخرج أولئك المبدعين هو "الكتاب".. ما يسمى بالمطالعة الخارجية التي تنبني على التأسيسات الأولية للمدرسة والمعهد والجامعة، وهي مجرد تأسيسات أولية، وأشدّد على الكلمة: لن تؤتي ثمارها ما لم يضف الطالب إليها جهداً ذاتياًً موصولاً من خلال قراءاته النهمة للكتاب.

هذا هو المعهد، أو الجامعة، التي تخرّج المفكرين والمبدعين والكتّاب، ولكن بالشروط التي يجب أن تتوافر في المطالعة الجادة، وهي أن تكون قراءة منتجة وليست استهلاكية.. قراءة تدرس وتحلّل وتنقد وتتقبل وترفض وتحاور، وتعود لقراءة الكتاب الواحد أكثر من مرة، من أجل أن يقدم خزيناً ذهنياً للقارئ يعينه على بناء ذاته ولا يتعرض للنسيان.. فإن قراءة كتاب واحد خمس مرات أفضل من قراءة خمسة كتب لمرة واحدة كما يقول العقاد يرحمه الله.

هذا، مع ضرورة أن تكون المطالعة متنوعة تمضي للتعامل مع أصناف المعرفة الإنسانية في حقولها كافة، وبقدر ما يطيقه القارئ الذي يتحتم عليه أن يبذل جهده العقلي في أقصى حالات احتماله - كما يقول الباحث الإنجليزي "هـ. ج. ولز" - وليس في حدوده الدنيا، كما يحدث بالنسبة لمعظم القرّاء.

إن التعامل الجاد مع الكتاب في سياق المطالعة الخارجية، يعين بالتأكيد على تنمية القدرات العقلية والإبداعية للقارئ، ويمنحه الرصيد الذهني الذي يأخذ بيده لبناء مستقبل علمي معرفي مترع بالوعد والعطاء والإبداع.

وبخلاف ذلك، سنكون مقبلين على عصر الأمية والكسل العقلي، وغياب المؤلفين والكتّاب والمبدعين الكبار.

إن المقرّر المنهجي المعتمد في المدارس والمعاهد والجامعات، ما لم تعنه المطالعة الخارجية، وتأخذ بيده، فإنه سيضيّق الخناق على النشاط العقلي، وسيحدّ من الفضاء العلمي والمعرفي للطالب، وسيخرج في نهاية الأمر ببغاوات لا تجيد سوى الاجترار والتقليد.

وما تقدمه الشاشة التلفازية لا يعدو أن يكون "سندويتشات" ثقافية عابرة لا تحفز العقل، ولا تعين على التكوين الثقافي المؤثر والفاعل والمنتج للمشاهدين، بل ربما على العكس.. إنها بتقديمها الوجبات الجاهزة التي لا تتطلب جهداً عقلياً، ستعين على المزيد من الكسل الذي ينذر بالويل.

المقرّر الجامعي.. نعم، الشاشة التلفازية، بكل تأكيد.. ولكن بشرط اعتبارهما مجرد حلقة أو خطوة أولية على الطريق الطويل، ولابدّ - إذاً - من "الكتاب" إذا ما أريد اجتياز هذا الطريق الطويل، وإلاّ، فإن أجيالنا القادمة ستظل تراوح عند بدايات الطريق.

وعلينا جميعاً أن نتداعى للدعوة إلى عودة تقاليد المطالعة الأصيلة في حياتنا الثقافية، تلك التي كانت أشبه بالتقليد اليومي للطلبة والشباب حتى ستينيات القرن الماضي، وربما سبعينياته، ثم ما لبث هذا التقليد «المنتج» أن انطفأ، واكتفت الأجيال التالية بما تقدمه المدرسة والجامعة والتلفاز.. إلاّ من رحم ربك، وهو استثناء لا يقاس عليه.

                

    * مفكر إسلامي وأكاديمي عراقي.