أيضاً: في مخاطر الاقتتال الطائفي

جلال / عقاب يحيى

زمان.. أيام الأحلام، ومرحلة النهوض.. كان من النادر أن يسأل أحدٌ أحداً من أين أنت، أو ما هي طائفته، لأنها كانت تعتبر من المعيبات باعتبارها تدخل في خصوصيات اعتقاد الإنسان، وعلاقته الخاصة بالخالق، ولأن رايات الوطن، والأمل بالوحدة، وتحقيق المشروع النهضوي الحداثي، التوحيدي، التحرري.. هي التي كانت شاغل الناس، وعلى أساسها يجري الفرز، والانقسام والتنافس والتصنيف، فضمرت الانقسامات المذهبية والدينية، وربما أخذت موقعها الطبيعي كحالة إيمانية، بينما كان المجتمع يمور بأفكار التطور واللحاق بركب العصر، وباتجاه الدولة المؤسساتية بطابعها المدني، أو اللاديني، ناهيك عن اللامذهبي، واللاطائفي ..

 ... ومرّت الأيام، ولعب أصحاب المصالح والمشاريع الخاصة بكل مكوّنات المجتمع خدمة لمشاريعهم، وحين تهاوى ذلك المشروع بالتدريج، وصولاً إلى هزيمة حزيران الساحقة والانعطافية..

 وحين أنجز الأسد انقلابه الارتدادي لعب بالوضع الطائفي ليكون أحد أهم ارتكازاته وديمومته، ولا مانع من نشر التطييف العام، وغيره من مكوّنات ما قبل الدولة الوطنية لتفتيت وحدة النسيج في المجتمع وليترّبع على الحكم ولو فوق جماجم الأهداف المرفوعة، والآمال التي كانت

 .

 .. اليوم كثير من الناس يسألون بعضهم عند أول تعارف سؤالاً صار معهوداً لكنه يحمل كل دلالاته : من أين أنت؟، أو من أين الأخ، والسؤال يحمل في صلبه محاولة كشف مذهب، أو طائفة الآخر لتحديد حدود وسقف التعامل معه، لأنه، وللأسف، وبظل ذلك الإخفاق الهشيمي، والارتداد المنهّج عن جوهر المشروع النهضوي حدث الفراغ الرهيب المثقل باليأس والإحباط ، والخوف من القادم، ومن بعبع ووحش السلطة المفترسة.. وكان من أبرز أوجه الارتداد : العودة إلى المخلفات للحماية بها، وتنشيطها، والاتكاء عليها، واستخدامها أيضاً.. في حين عمّت الوسط الشعبي مشاعر طائفية النظام، واعتبار الطائفة العلوية هي الحاكمة، وهي المستفردة بالمناصب الحساسة، والمفاصل المهمة في السلطة (خاصة الأمن والجيش)، وبات اسم" علوي" مرادفاً لكلمة النظام ، وبات "العلوي" غير الطائفي، والذي لا علاقة له بالنظام، ولم يشمّ رائحته، ولم ينله منه سوى الويلات، بل وحتى المعارض الذي أمضى سنوات طويلة في المعتقلات والتعذيب والملاحقة.. وغيرها.. بات عليه أن يقسم أغلظ الإيمانات أنه ليس طائفياً، ولا علاقة له بالنظام، كما بات عليه أن يواجه أثقالاً مضاعفة داخل بيئته، وعلى الصعيد العام ..(تلك ظاهرات عامة تبرز على السطح الخفي الشعبي، والتي قد يغلفها الخوف، ونفاق البعض الذي اعتبره الكثير سلاحاً لمواجهة بطش السلطة الغاشمة أو اللعب عليها..)..

 وقد نجح النظام في زرع الريبة والشك بين المواطنين مصوّراً أن كل من ينتمي للطائفة العلوية هو في إطار النظام، وقد يكون مخبراً أو مسؤولا يثير الخوف، والتحسّب، وينسحب الأمر أحياناً على كل من ينطق بالقاف غير المخففة، أو المحرّفة.. والتي صارت عند عديد الانتهازيين وكأنها ممر عبور، وجواز مرور لكثير الأمور.. في حين يمكن أن يكون ابن الطائفة(والتسمية مجازاً) غير مؤمن كلية بالأديان والمذاهب، أو أن انتماءه ..فوق ديني، وحتى فوق وطني وقومي، وهو يمقت أن يُحسب على الطائفة بمعنى الانتماء، والذهن والاحتباس والحلم والأفق ..خاصة وأن عديد المثقفين في هذه الطائفة أو تلك يعتبرون انتماءاتهم السياسية والفكرية هي الأصل، وهي الخيار، وهي الموقف، والعديد يزدري ويقرف أن يقزّم ويحتبس في سجن يرفضه، ويطمح إلى تغييره .. إلا أن تدهور الفكر السياسي عموماً، وإخفاق مشروع النهوض القومي وتلغيمه تحت راياته من قبل قوى متخلفة، وغير جديرة به خصوصاً، واستخدام المكوّن التاريخي : الديني والمذهبي، وغيرهما، لصالح التأبيد بالحكم، وضرب النسيج الوطني، والاعتماد على عدد من أبناء الطائفة العلوية في مواقع هامة في أجهزة الأمن والجيش، والأحداث الدامية بين النظام و"الحركة الدينية" في الثنمانينات، ونجاح النظام في زرع الخوف عند الأوساط الشعبية من قادم متشدد يقتل على الهوية، ويهدف الاشتلاع والانتقام، وغيره.. وتجنيد عديد البسطاء أدوات للتشبيح وكتابة التقارير، وفعل المجون ضد مشاعر وكرامة المواطن، أو في ظاهرات انفلاتية دون حسيب أو رقيب، خاصة في عائلة بيت الأسد ومن لفّ لفّهم من شبيحتهم ومافياتهم وأزلامهم.. أججت المشاعر الطائفية تلك الأعوام، ثم نامت في أسرّة الخوف المعمم، وتحت حجب الشعارات المنفوخة، والأكاذيب المضخمة عن عظمة القائد وعبقرياته وإنجازاته، وما فعله ل"سورية الأسد" من مكانة، وما أحدثه من رهبة، ومن خلخلة في وعي ومشاعر البشر دون أن ينجح نظام العقود في التقدّم خطوة واحدة مهمة باتجاه نزع فتيلها، لأنه لا يؤمن إلا بالقمع والفرض والتركيع، حتى إذا ما جاء التوريث : التقزيم، والتوريث التشويه لمبنى ومعنى الدولة، وحتى النظام المثقل بالشعارات الكبيرة، وبواجهة يسميها حزب البعث بكل مقاره وراياته وأعداده المليونية، وشخصياته التي يستعرضها الإعلام نفخاً وتظبيطاً، ورغم وجود ما يسمى ب" الجبهة الوطنية التقدمية" وبقية المؤسسات المنفوخة بالتلفيق والتصفيق واللهط والشفط.. ورغم اللوحة الخارجية متعددة الألوان للحكم، ورغم تحالف طبقة التجار الجدد القوي مع النظام، ومعهم كومات من رجال ومشايخ الدين السنة وغيرهم من أصحاب اللفّات والثروات، والوجهاء وسواهم كثير.. إلا أن مواصلة نهج اغتيال الفكر، والرأي، والمواطن الآخر، وتلفيق الوعود بالإصلاح، وبروز الأنياب القوية الناهشة والناهبة لقادة الأجهزة الأمنية وكبار المسؤولين، والإخفاق المريع في نقل البلد إلى موقع الانفتاح والتحديث.. وعوامل كثيرة من مثقلات نظام التوريث(العامل الاقتصادي وازدياد تفاقم الأزمة بين القلة المالكة والأكثرية التي تنحدر نحو قاع الحاجة والفقر ـ تدهور وتصفية الطبقة الوسطى : عامل التوازن، وبروز المافيا المكلوبة....) جعل الوضع التحتي ـ الشعبي عرضة لكل المفاعلات ما قبل وطنية وقومية، ومنها الحالة المذهبية ..

ولنا أن نتصور فضيحة النظام التي يمكن الإبحار العميق فيها وهو يعلن في الأيام الأولى لانتفاضة الشباب ـ الشعب(وكانت ما تزال محدودة) أنها " فتنة" والتي تفسّر في علم السياسة على أنها اعتراف صريح بدجل كل الأطناب الأخرى عن "دولة الممانعة، والمقاومة، والوحدة الوطنية" حين ركل النظام ـ واعياً، أو بالنتيجة ـ عقله اللا واعي ـ كل ما يمجّده من شعارات، وحين قزّم " دولته" أو مملكته بالأصح (لأنه لا وجود للدولة) إلى مستوى هزيل(على قدّ تركيبته )، وكأنه ممثل طائفة في مواجهة طوائف أخرى، وكان هذا الطرح يحمل مداليله الخطيرة، ويكشف المخفي من وجه النظام الذي أراد طمره بأكوام الشعارات الخلبية، وكتائب الإعلام المبرمجة، وآلاف المبوقين البواقين .. وبالوقت نفسه يؤشر إلى دفع الأمور بهذا الاتجاه، واستعداده ل"خوض المعركة" على هذا الأساس ..وهو ما يحاوله عندما فشلت وسائله القمعية الدموية في تركيع الشعب، والقضاء على الثورة.. وما يحاوله من تأليف وتحشيد، وافتعال أعمال عنفية ونسبها للآخر( كنت قد كتبت عن وجود جيوب طائفية ومتشددة في طيّات الثورة السورية، وعلى حوافها، وأطراف من خارجها تدفع بهذا الاتجاه) ..لأن النظام وهو يصرّ حتى الآن على الرفض بالتسليم للإرادة الشعبية، وهو المأزوم حتى السقوط.. لا توجد لديه أية خطوط حمراء وطنية أو غيرها، وسيكون مستعداً للذهاب في الدفع بهذا الاتجاه حتى منتهاه ـ إن قدر ـ مع الإشارة إلى أن ذهنية بعض المتخلفين فيه لا تمانع في حكم زقاق، أو قرية .. إن كان هو المجال الباقي للحكم، والنهب، والتملص من حكم الشعب ومحامته للقتلة والمجرمين ..

 لكننا دوماً يجب التفريق بين وجود مذاهب وأديان تاريخية تشكل جزءاً من مكوّنات شعبنا، ومسألة إيمان، أو تأثر الأشخاص بها، وحقوقهم في ذلك، ووجودها كواقع.. وبين الاستخدام السياسي المرفوض، والذي يقود إلى التمزيق والاحتراب المتخلف .

 لقد كان شعار الثورة الفرنسية : الدين لله والوطن للجميع تلخيصاً لحرية الناس في العبادة والمعتقد، وبالوقت نفسه فصل الدين عن الدولة حتى لا يُساء توظيفه في خدمة مصالح البشر الذين يتولون مواقع القيادة فيه، وكي تقوم الدولة المستقلة عن كل مكوّن يعيق، أو لا علاقة له بها ..

وبعيداً عن الكلام العاطفي والشعاري في رفض الطائفية، أو النوم على مقولات شعبنا اللا طائفي، وشعبنا القادر على وأد الفتنة، وعلى وعي شباب الثورة بهذا الفخّ الذي يريد النظام(وقوى أخرى داخلية وخارجية ـ أيضاً) جرّ البلاد إليها ..وهو ما نؤمن به، وما نعتقده .. لكن محاولات التجييش التي عرفتها الأيام الأخيرة،وما فتحته من مخاوف، وما رافقها من تهويل، ونشر روايات عن أعمال ونوايا هنا وهناك..واستعراضات الفجور للنظام ومليشياته وأتباعه.. والكثير مما يحكى عن مشاريع مقايضات أخفق بعضها، وما زال بعضها يتمّ التداول فيه تحت طاولات المعنيين.. وتجذر الثورة السورية شمولاً، وبسالة، وتصميماً على إسقاط النظام كمهمة محورية لا بديل عنها، وسقوط، أو خفض صوت المراهنات على أي نوع من الحوار مع النظام (بعد أن ذبح جميع الشروط، وجميع المتأملين به وبقابلية قبوله للحدّ الأدنى من المطالب التي ساقوها وحاولوا تسويقها)، وانقبار مشروعه للحوار"الوطني"، وبدء عمليات انسلاخات متتالية في الجيش، وبعض عناصر الأمن.. وغير ذلك كثير من مظاهر الهربشة التي يعانيها النظام.. كل هذه المعطيات تجعل احتمالات اللعب بالأوضاع الطائفية وحقنها وتوتيرها قائماً.. الأمر الذي يجب وعيه، والانتباه إليه ..

إن وعي تكتيكات النظام لقطع الطريق عليه، وعلى غيره من دعاة الفتنة، يستوجب من التنسيقيات المبادرة إلى لمّ صفوفها باتجاه الوحدة، واقلها التنسيق فيما بينها، والعمل على بلورة أطرها : مقدمة لامتلاك وطرح وممارسة رؤاها وبدائلها، وتمكّنها من قدرة دعوة وتحريك جميع مكونات الشعب السوري، بما فيها الأقليات الخائفة، والمتشككة، والحذرة والمعارضة، وفي المقدم منها : الوسط الشعبي في الطائفة العلوية، للإسهام في ثورة الشباب، لأنها ثورة الشعب، ولأنها ثورة الحرية للجميع ..

هنا، وبعيداً عن شعارات الابتذال والمناشدة المراهقة، والممسرحة أحياناً.. فإن تكريس خيار الدولة المدنية الديمقراطية، اللا دينية، اللا إديولوجية من قبل شباب الثورة، وعبرهم : جميع القوى السياسية والناشطين وغيرهم، ورفض التصريحات، والأعمال التي يُشتمّ منها روائح طائفية عفنة، وجاهلة، أو مشبوهة.. إنما يشكل الردّ الفعلي ..ولعل المعارضين والنشطاء والنخب الذين (ينتمون)، أو يُحسبون ـ برغبتهم، أم وفق السائد إلى الأقليات الدينية والإسلامية، خاصة من " الطائفة العلوية" عليهم أعباء مضاعفة في العمل على إزالة مفاعلات التخويف والتشكيك القائمة في الوسط الشعبي، وبذل الجهد لمشاركة قطاعات الشعب بكل أطيافه في يوميات وأحداث الثورة، ومستقبلها، وبلورات مرحلتها الانتقالية .

 وإذا كانت صخرة وعي شعبنا بما عُرف عنه من تفتح وتحضّر وتمسّك بالوحدة الوطنية، وإقرار بتعدديته الدينية والمذهبية والقومية وغيرها.. ستحطّم كل محاولة للعب بنار الطائفية.. فإن النخب مدعوة لكشف الأغطية والحجب عن هذه الدملة ومواجهتها بروح المسؤولية الوطنية دون خوف ورهبة، وإدانة كل قعل ينتمي، أو يُشتبه بالانتماء إليها حيث جاء، ومن أي طرف كان ..