الثورات بين الشباب والعلماء والمعارضين

ثورة شعب سورية نموذجا

نبيل شبيب

عذرا للقارئ.. فلا بد من كلمات من قبيل التوطئة قبل الدخول في صلب ما يقول به نص العنوان، فليس في الفقرات التالية تحليل إعلامي دقيق، ولا رأي من قبيل التعليق على حدث بعينه، إنّما هي خواطر من قبيل تداعيات الأفكار، ولئن دارت حول سورية وثورة شعبها، فهي تنطلق من أن شعب سورية جزء من الأمة لا ينفصل عنها، وأن ثورته كثورات الشعوب الأخرى، منطلقاتها واحدة، وضروراتها مشتركة، وغاياتها متماثلة، وانتصارها -جميعا- محتّم بإذن الله، وإن تعدّدت المسارات وتباينت التفاصيل.. بسبب المعطيات الواقعية، أي المنبثقة عن واقع التجزئة عبر عشرات السنين الماضيات، وهي تجزئة تعكس تشبّث الأنظمة الناشئة على أرض الأوطان بما خلّفه تنفيذ مخططات المستعمر، عدوّ الشعوب والأوطان.

ويأتي الاعتذار مسبقا فينسكب مع هذه الخواطر والأفكار عبر القلم، إذ تأتي دون ضبط منهجي، فهي لا تشمل جميع ما ينبغي أن يقال، ولا تخلو من ذكر جوانب قد يوجد أهمّ منها ولا يُذكر، كما أنّها لا تخلو من بعض الرؤى والمشاعر الشخصية البحتة.

-1-

إنّما دفع إلى تسجيل هذه الخواطر والأفكار بعض الأمور الجوهرية للغاية التي انطوت عليها أجواء من عالم الواقع ومجرى الأحداث، ممّا يعايشه ويواكبه كاتب هذه السطور، باعتباره فردا من الأفراد، يمتد بصره مع خفقات قلبه ليعانق الشباب من أهله في أرض الوطن الذي حُرم منه هو وكثير من أمثاله لزمن طويل، فلا يملك عبرات عينيه إزاء القامات العملاقة لشباب الثورة وهم يقدّمون ما يرتفع بهم إلى أسمى مقام في هذه الثورة الأبية في سورية الأبية، وهي منتصرة بإذن الله، آجلا لا عاجلا..

كما أنّه لا يملك إلا أن يُخفض بصره إجلالا واحتراما للمخلصين من كبار علماء هذا الشعب وهذه الأمة، وهذا بعض ما يعرفه من قبل عنهم، وما رأى بعض تجلياته رأي العين أثناء مشاركته في مؤتمر العلماء المسلمين لنصرة الشعب السوري في اسطنبول (13 و14/7/2011م)..

كما يلوح بريق من الأمل في بصره إزاء كلّ من يتحرّك -رغم ثقل إرث الحقبة الماضية بمختلف المعايير ولمختلف الأسباب- كي يرتفع بنفسه إلى مستوى تلبية احتياجات الشعب وثورته، والمقصود ما بات يوصف بالمعارضة التقليدية تارة، والناشطين السياسيين أو الحقوقيين أو المعارضين تارة أخرى، ومن هؤلاء ما تابعه كاتب هذه السطور مباشرة من جهود كوكبة من المخلصين في فترة الإعداد لمؤتمر الإنقاذ الوطني في اسطنبول، الذي يشارك فيه (16/7/2011م)، ويُرجى أن ينجم عنه ما يؤمل منه بقدر ما يحمل من المسؤولية الجسيمة والأمانة الثقيلة لأدائه.

-2-

قبل سرد الخاطرة الأولى حول كلمات صدرت عن أستاذي الجليل عصام العطار.. أقف هنيهة عند سؤال طرحه عليّ أحد الأحبة مرة: علام أقول أستاذي الجليل أحيانا، بينما لا أضيف إلى اسمه لقبا من الألقاب، كالداعية الكبير، والشيخ الجليل، والعالم الأديب، أو سوى ذلك مما يعبّر عن بعض جوانب شخصيته وحياته وعطاءاته، بل أذكر اسمه عصام العطار، هكذا مجرّدا في غالب الأحيان، كلّما تطلب الحديث في أحد المواضيع ذكره!..

وقد أجبتفي حينه: أقول ببساطة أستاذي الجليل عند ذكر أمرٍ يمس جانبا شخصيا، فهذا ما يصف العلاقة الشخصية لي به، مع إدراك أن نسبة الاستفادة من مثل هذه العلاقة مرتبطة بجهد التلميذ وليس عطاء الأستاذ فقط.

أما فيما عدا ذلك فأعتقد أن الاسم يكفي، إذ أصبح هو العنوان والمضمون لِجميع ما يراد قوله عبر الألقاب، دون أن يكون تعدادها كافيا ووافيا للتعبير عما يراد قوله فعلا!.

ذاك بعض ما كان يجول في نفسي وأحيانا في بعض ما يترقرق في عينيّ، وأنا أرى أستاذي الجليل يقف بصعوبة بالغة وقد ناء بظهره ثقل 85 عاما ونيف، وما ناء بهامته ثقل جميع ما لاقاه في حياته منذ تحرّكه في درب الدعوة وهو دون السادسة عشرة، إلى أن أصبح يخطب فينصت إليه كبار العلماء الأجلاّء في سورية مع جماهير شعبها الأبيّ، ثم من بعدُ على امتداد حياته الحافلة بمواصلة العطاء والجهاد منذ بداية حياة الترحال في غربته القسرية، منذ عام 1964م.. أي منذ 47 سنة!..

إن مكانة العلماء وتأثيرهم والثقة بهم والأخذ بما يقولون، جميع ذلك مرتبط ارتباطا وثيقا بثبات العلماء.. وهذا بالذات ما كنت أراه على ذلك المنبر في اسطنبول يوم 13/7/2011م، فلم أكن أسمع كلمات عصام العطار في تلك اللحظة، بل أسمع موقفا قويا راسخا كالجبال، على لسان ابن الخامسة والثمانين، يعبر عشرات السنين الماضيات فيتصل اتصالا مباشرا بذلك الموقف القوي الراسخ كالجبال، على لسان ابن الخامسة والثلاثين، في يوم جمعة، في جامعة دمشق، كان أوّل يوم أسمع فيه خطبة يلقيها أستاذي الجليل، قبل 49 سنة، بعد انقلاب عبد الكريم النحلاوي (28/3/1962م) واستلام بشير العظمة لرئاسة الحكومة (16/4/1962م)، وقد أنذر الخطيب الذي رضيت بمواقفه جماهير شعب سورية وقياداتها وعلماؤها.. أنذر بإسقاط الحكومة، واستقالت الحكومة قبل حلول موعد خطبة الجمعة التالية.

-3-

في ختام كلمته الأولى في مؤتمر العلماء المسلمين لنصرة الشعب السوري، وجّه عصام العطار تحيّة إجلال وتقدير إلى شباب سورية الذين يصنعون "ثورتنا" وتحيّة إجلال وتقدير إلى شيوخ سورية منوّها بهيثم المالح "الجالس بيننا".

ورأيت -كما لم أرَ من قبل- ما تعنيه أضلاع ذلك المثلث في "نسيج شعب سورية" ومن خلال ذلك في واقع ثورة شعب سورية، ومسار الثورة على أرض سورية، ومستقبل سورية من خلال انتصار هذه الثورة، ولقد جسّد أضلاعَه الثلاثة، على أرضية الثورة:

(1) موقف للعلماء يعقد عرى رابطة سورية ماضيا وحاضرا ومستقبلا..

(2) بطولات شعب ثائر مع قياداته الشبابية في الميدان..

(3) جهود متواصلة متكاملة يرجى لها أن تفضي إلى تثبيت ما يعمل له المخلصون من ناشطين ومعارضين، صادقين ثابتين داخل الحدود، وصادقين مشرّدين خارج الحدود، من أجل ضبط المسار على نهج الثورة وحفظ ثمراتها التي ترويها دماء الضحايا وآلام المعاناة.

-4-

إنّ ما يعزّز الثقة الشعبية، على مستوى شباب الثورة، وخنساوات الثورة، ورجالات الثورة، بمكانة العلماء، هو صدق مواقف العلماء، التي تُغيّب -كما تغيّب شعلة النور دياجير الظلمة- جميع ما يصدر من مواقف تُنسب إلى العلم زورا، وتسيء إلى موقعه ودوره واقعا مشهودا، وقد تعمّم على العلماء دون وجه حقّ، فالعالم الحقّ هو العالم الذي يصدع بكلمة الحق ويبيّن ضوابط الطريق، فلا يخشى في كلمته إلا الله، ولا يجامل فيها طاغية يتجبّر، ولا ينحرف فيها عن درب الحق الأبلج.

هذا ممّا جعل فعاليات مؤتمر العلماء المسلمين لنصرة الشعب السوري تخترق الحواجز والحدود جميعا إلى قلوب من تجاوب معها من الشباب ومن مختلف الأعمار في قلب سورية..

وهذا ممّا جعل كلمة الحق فيه عروةً وثقى تصل ما بين مراحل ثلاثة من مسار الثورة، يرمز إلى أولاها المسجد العمري في درعا الثائرة الأبية الصامدة (الذي يشهد ساعة كتابة هذه السطور في جمعة أسرى الحرية.. مواصلة الثورة وإطلاق نار كثيف من جانب طغيان عاجز عن إخمادها وهو يعلم أنه ساقط لا محالة) ويرمز إلى المرحلة الثانية موقف التحدي الصادق بقوّة الحق الصادر عن علماء مدينة حمص الثائرة الأبية الصامدة (التي تشهد ساعة كتابة هذه السطور جولة أخرى من جولات الصدور الأبية العارية في مواجهة الدبابات والشبيحة المتعبة) مثلما يرمز إلى المرحلة الثالثة تلاقي علماء أجلاّء من أقطار إسلامية عديدة على كلمة الحق الواحدة، مع ثورة الحقّ في سورية، في لقائهم الذي انعقد في اسطنبول على وقع الخطوات الحاسمة قبيل جمعة "أسرى الحرية".

-5-

يجب أن يكون الحرص كبيرا.. كبيرا.. لا ينقطع ولا يتراجع على تكامل الأضلاع الثلاثة للمثلث الواحد..

لا يغني دور العلماء وحده عن دور الشباب ودور الناشطين..

ولا يغني دور الشباب عن دور العلماء ودور الناشطين..

ولا يغني دور الناشطين عن دور الشباب ودور العلماء..

ولا يغني أحد عن الأرضية الشعبية الجامعة لهذه الأضلاع الثلاثة في مواجهة مثلث الاستبداد والفساد والأتباع.

إن انتصار ثورة شعب سورية رهن بتلاقي مهمّة العلماء صدعا بكلمة الحق في وجه الطاغوت وكلمة البيان لضمانات الثبات على الحق بما يجمع جميع أطياف الشعب الواحد، بمختلف انتماءاته العقدية وغير العقدية، وبمختلف توجهاته واجتهاداته، في الحاضنة الحضارية المشتركة لترسيخ الكرامة والحرية والعدالة على كل صعيد في واقع بلادنا ومستقبلها..

وإن انتصار ثورة شعب سورية رهن بتلك البطولات السامقة مع هامات الشباب الذين يصنعون الثورة ويمضون بها بعزيمة لا تلين من قمة إلى قمة نحو النصر الموعود والمستقبل المنشود بإذن الله عز وجل..

وإن انتصار ثورة شعب سورية رهن بالحرص الأكبر على عدم ضياع التضحيات الجسيمة الغالية، من خلال تلاقي الناشطين على رؤية مستقبلية لا تفسح مجالا لتكرار ممارسات الإقصاء والاستئصال، والعداء والتخوين، ولا لاقتناص الفرص على حساب الإرادة الشعبية الجامعة، وهذا بالذات ما يحمل الناشطون من مختلف الأطياف المسؤولية عن تحقيقه عبر وضع الأسس والقواعد الضرورية له، جنبا إلى جنب مع ما يصنعه الثوار بأجسادهم وبطولاتهم، ويدعو إليه العلماء بالإخلاص في مواقفهم..

ولئن أخذ مؤتمر الإنقاذ الوطني في اسطنبول ودمشق (16/7/2011م) على عاتقه هذه المهمة، أو جانبا كبيرا من هذه المهمة، فهذا ما يرجى أن تعطي نتائجه ما يؤكّد القدرة على النهوض بهذه المهمة.. وآنذاك يجد ذلك مزيدا من الخواطر والأفكار في حديث آخر إن شاء الله.