رفيق من زمن الأسد

د. هشام الشامي

عندما كنت طالباً في الثانوية العامة ، استدعاني موجه المدرسة إلى مكتبه مع عشرة من زملائي الأوائل على المدرسة 0

وبعد أن أغلق باب مكتبه، بدأ بإلقاء خطبة عصماء، بيّن فيها أنه يفتخر بوجود أمثالنا في مدرسته وأننا مثال التفوق والالتزام والأدب، وبعد أن سألنا عن عمل والد كل واحد منا، عاد لمتابعة خطبته الرنانة ، وبيّن لنا أننا أبناء الطبقة الكادحة، أبناء العمال والموظفين وصغار الكسبة، ونحن أحق بأن نكون طليعة المنتسبين لشبيبة الثورة، وبيّن استغرابه لعدم التحاقنا بحزب البعث العظيم، حزب العمال والفلاحين والكادحين، الحزب الذي أعاد الحقوق لهذه الطبقات المسحوقة، وأنهى احتكار الإقطاعيين والرأسماليين والتجار الطامعين.

لقد كانت خطبة مؤثرة فعلاً، جعلتنا نجلس صامتين خاشعين مصغين مستغربين متفاجئين من هذا الاجتماع الأول من نوعه، وبعد حوالي نصف ساعة من الجمل الحماسية والكلمات المثيرة، وكيل المديح للحزب والثورة وقائد المسيرة، وجه إلينا السؤال التالي:

- ما الذي يمنعكم من الالتحاق بهذا الحزب العظيم؟

تسمرنا للحظات في أماكننا وكأن على رؤوسنا الطير، ثم تجرأ أحدنا وأجاب متسائلاً بانفعال وتوتر:

- من هم الطلاب المنتسبون لشبيبة الثورة من زملائنا؟

فأجابه الموجه الحزبي: - إنهم ثلاثة طلاب فقط. وذكر أسماءهم.

فتابع زميلنا الجريء قائلاً: - أتريدنا أن نكون مع هؤلاء الطلاب الكسالى سيئي السمعة، عديمي الضمير والأخلاق والانتهازيين؟

فاجأنا جواب زميلنا وشجاعته، وحسبنا أن أستاذنا سيوبخه على هذه الإجابة المباشرة، لكن الموجه حافظ على هدوئه، ورد عليه بكل أدب واحترام:

- يا بني، لو كنتم أنتم المنتسبين إلى الحزب، لما تركتم لأولئك الفاسدين أي دور؛ وعلى كل انتسبوا أنتم للشبيبة، وسأفصل هؤلاء الثلاثة إن شئتم.

استمر الأستاذ في مفاجأتنا، وتأثرت بكلامه تأثراً شديداً، وخصوصاً عندما بين لنا نزاهته، وشرح لنا نضاله الطويل في صفوف الحزب، ودفاعه عن الجماهير الكادحة والمسحوقة، وتابع قائلاً: أنتم تعلمون أنني بعد انتهاء دوامي في المدرسة، أعمل في محل صغير، وهو عبارة عن غرفة من بيتي الصغير، فتحتها على الحي، وأبيع بها بعض الحاجات المنزلية، لكي أستطيع أن أضاعف دخلي، وأدرّس أولادي، ليعيشوا بالحلال من جهدي وعرق جبيني.

لقد كانت كلماته تقتحم قلبي بسلاستها ورقتها، وكنت أنتظر أن يسبقني أحد زملائي بالموافقة لكي أوافق معه، ولا أريد أن أكون أول الخارجين عن الصف العام، وعندما لم يرد أحد بالإيجاب، استمر في أدبه الجمّ، وأخلاقه الرفيعة ولم يضغط علينا أكثر من ذلك، وقطع صمتنا قائلاً:

- على كل حال، سأترككم الآن، وأرجوا أن تفكروا في كلامي جيداً، وانتظر منكم الإجابة قريباً؛ تفضلوا إلى صفوفكم من فضلكم.

خرجت مع زملائي، وأنا أفكر في كلامه الجميل، ومنطقه السليم، وعاهدت نفسي أن أدرس الموضوع بجدية، وأرد عليه بالإيجاب، ولو كنت وحيداً.

وبعد انتهاء اليوم الدراسي، انصرف الطلاب، وتوجهت إلى حائط المدرسة قرب باب الخروج، حيث كنت أضع مع بعض الزملاء دراجاتنا الهوائية، وكنت أقطع على دراجتي كل يوم حوالي ستة كيلومترات ذهاباً ومثلها إياباً من وإلى منزل الأهل في الحي البعيد.

ولكنني لم أجد دراجتي، فسألت عنها الآذن فرد بأنه لم يرها، فتوجهت إلى الموجه ذاته، وقلت له بانفعال: لم أجد دراجتي يا أستاذ، لقد سرقت!!

فهدّأ من روعي، وقال هل سألت الآذن أبا جاسم عنها؟، فقلت: نعم، لكنه يقول أنه لم يرها. فأمسك بيدي برفق كأب حنون، وذهب بي إلى غرفة المدير، وبعد أن استأذن بالدخول، دخلنا عليه، ووجه كلامه للمدير: هذا الطالب هشام من أفضل وأنشط الطلاب في المدرسة، ويأتي إلى المدرسة من حي بعيد حرصاً على استمراره في مدرسة المتفوقين، وقد سُرقت دراجته هذا اليوم.

فأجاب المدير: ما الذي يحصل يا أستاذ، هذه خامس دراجة تسرق من المدرسة هذا الأسبوع، يجب أن تشددوا الرقابة، وتأتوني بالسارق في أقرب وقت لأقطع يده.

فخرجنا من غرفة المدير، وكان الموجه ما زال يمسك بيدي بحنان، وقال لي: استعن بالله، وامشي إلى بيتك راجلاً هذا اليوم، وإن شاء الله سنمسك بالسارق، ونعيد لك دراجتك.

وذهبت إلى بيتي والحسرة تخنقني، وعندما رأتني أمي كئيباً تنحصر الدمعة بين جفنَيّ، سألتني عن السبب فشرحت لها ما حصل لدراجتي، فحزنت لحالي، ورقت لحزني. وعندما عاد والدي من عمله، شرحتْ له حزني على دراجتي، وقالت له: بيدي خاتم ذهب، بعه واشتري له دراجة. فقال لي والدي متأثراً: لا تحزن يا بني، سوف أشتري لك دراجة مستعملة من سوق الجمعة إن شاء الله.

وانتظرت يوم الجمعة، وفعلاً رافقني والدي إلى السوق الشعبي، وبدأنا نبحث عن غايتنا، وبينما كنت أبحث عن دراجة مناسبة، رأيت دراجتي المسروقة ، التي كانت قطعة مني، وكنت أعرفها كما أعرف نفسي، وأصرف كل مصروفي في تزيينها والاعتناء بها؛ فصرخت: بابا، انظر، هذه دراجتي هناك. وعندما رآها أبي عرفها، فأسرع وأمسك بمن يجرها، وصرخ به: من أين جئت بهذه الدراجة؟ فأجاب: إنها لي اشتريتها بالأمس وأنا هنا لأبيعها ، و أنا أتاجر بالدراجات المستعملة . فسأله أبي: ممن اشتريتها؟ فأجاب: من صاحب البقالية قرب ثانوية الثورة في حي البعث.

فقال والدي: هي مدرسة ابني، وهذه دراجته، تفضل معنا إلى هناك.

وذهبنا ثلاثتنا إلى البقالية، وإذ نحن أمام نفس محل الموجه البعثي المشرف علينا، وعندما رآنا تغير لونه و اكفهر وجهه،  و بدا مرتبكاً. فسأل والدي الشاب الذي معنا: ممن اشتريت هذه الدراجة؟ فأشار إلى موجهنا وهو يقول: من هذا الرجل.

فبدأ أستاذنا الموجه بالصراخ وكأنه غير الموجه الذي عرفت: لماذا تبتليني؟ من سلّطك علي؟ أنا لا أعرفك، لم أرك في حياتي، لا بد أن أحداً يريد أن ينال من سمعتي ومكانتي، لا شك أنها مؤامرة مدروسة، أنا رفيق بعثي شريف كادح مناضل .. سوف أسجنكم جميعاً، سأتصل بالمخابرات لتأخذكم إلى ما وراء  الشمس..

وبينما موجهنا يصرخ ويزمجر ويرعد ويزبد ويهدد، وتمسك يده المرتجفة بسماعة الهاتف، إذ دخل زميلي في المدرسة، ومعه والده، ورجل يدفع دراجة أخرى وهو يقول: لقد اشتريتها من هذا الرجل. وكان يشير بأصابع الاتهام إلى الموجه البعثي نفسه!!!

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية