من يصحح الواقع إذا لم تخرج الكلمات الثائرة من غرفة التخدير

من يصحح الواقع

إذا لم تخرج الكلمات الثائرة من غرفة التخدير؟

الشيخ خالد مهنا *

[email protected]

في مناخ من العلل والأمراض والهذيان  والعصبية والتهيج والطوفان والملوحة والعطش بعد النكسات والنكبات التي مرت بالأمة كتبت القصائد والنصوص الثرية الجمة الثرية معنى ومبنى،لأن النكبات كانت أحداثاً تهز الوجدان، والغضب مرتبطاً بها ارتباطاً وثيقاً تماماً كما يرتبط النبات بنوع التربة والمناخ والفصول،والثورة القلبية نبات متوحش من فصيلة الكاكاتوس التي تنبت في أقسى ظروف الملوحة والعطش.

أنّ ما يمر بنا كفلسطينيين من تمزق وفرقة وخصومة وتحزب أشد من النكبات السابقة وأشد مرارة على النفس، وتتجمع فيه كل أمطار وعواصف وأعاصير الدنيا وكل أشجار الخريف المتكسرة،فأين هي القصائد والنصوص التي يجب أن تتوالد وتتناسل كما تتناسل الأرانب بشكل خرافي؟...

هل صمتت؟

هل استسلمت للقمع والمطاردة؟..

هل رفعت الراية البيضاء؟..

أين هي الكلمات النارية الثائرة التي تتمرد على واقع التمزق والشتات وتقول رأيها،بجرأة وصراحة لتلد النسخة عشرات النسخ وتزدهر عمليات توزيع الحقيقة على الباحثين عنها؟..

لمصلحة  من يواجه الواقع الفلسطيني بقبلات من هنا لذاك التيار وأزهار من هناك،وغزل من هنا لذاك الفصيل وأشواك لذاك،وتقديس لفئة.. وطلقات رصاص من صوب آخر لتلك الفئة؟..

لست خجولاً حين أصارحكم.... أن الكثير من الكتاب الفلسطينيين والعرب يخافون أن يلجوا هذا الباب خوفاً ورهبة من أن يتهموا بأنهم مأجورين وعملاء وراقصون فوق الجراح... وخشية أن يشطب أسمهم من قائمة الفلسطينيين الوطنيين... فإذا جاءوا لينتقذوا الواقع ويصححوه،.... ويقوموا العوج والالتواء والمنعطفات خافوا وجزعوا... ويبقى السؤال من يصحح الواقع إذا لم تخرج الكلمات الثائرة من غرفة التخدير؟ من يقومه إذا لم تجتمع كل الإرادات الخلاقة في بوتقة واحدة؟

من يردد"ربّ أغفر لهم فإنهم لا يعلمون"..إذا لم يردد الكتاب والشعراء والإعلاميين الذين تملي عليهم الظروف هذه المرحلة النكدة أن يكتبوا الحقيقة... ولا يأبهوا بالحجارة المتساقطة على نوافذهم،بل لن يكونوا في عداد الكتاب والوعاظ والموجهين أن لم يتفرجوا على الرصاص الطائش الموجه إليهم بحلم وهدوء عجيب وابتسامات عريضة؟

ألم يئن الأوان وداء الفرقة ينمو كالوباء أن يستقيل صناع الرأي من وظيفة الغناء ضمن الجوقة وأداء دور القرود؟.. 

إن على كل المرشدين البررة إزاء  تفاقم الأوضاع الفلسطينية الفلسطينية  أن يستقيلوا من دائرة المجاملة والطبطبة على الأكتاف ويعلنوا تمردهم على هذا الواقع الآسن حتى لو تبرأت  منا قبائلنا وفرقنا وعشائرنا وبطوننا لخروجنا من بيت الطاعة ولو كلف  الأمر النفي والتشريد والقذف والتشميس وإصدار أحكام الحرمان والمقاطعة ...ولنتذكر ان المرحلة التي تسربلنا تحتم علينا أن يكون الولاء للوطن  فوق الولاء للعشيرة والمذهب وان ندرك انه ليس من عادات من المتجرين والمتفيهقين والغلاة لمنظمتهم أن يقبلوا بالرأي المغاير ومبدأ النقد  الذاتي فشمس الصحراء سيف نحاسي لا يقتنع بأي نقاش أو حوار؟ والنقد الذاتي الموضوعي البناء الهادف وإن كان متمرداً  شيء مخالف للطبيعة العربية،وقناعة العربي المهزوم داخلياً وخارجياً بتفوقه وتميزه وسوبر مانيته قناعة لا تقهر، والنعوت  وهو للأسف يؤمن أنه من طينة وبقية البشر من طينه وجبله أخرى..هو من معدن الماس وسائر الكائنات من فحم،هو التاريخ اللامع والآخرون هوامش غير مرئية على جانبيه..ولذلك لن  يقبل أن يناقشه أحد حتى لو كان عربياً مثله فإن تناقشا كال كل واحد للأخر شيء التهم وألصق به شتى الأوصاف...

الخلاف  أمر طبيعي وغير طبيعي في آن، فهو طبيعي لأنه يعبر عن صراع سياسي بين فئة تتبنى نهجاً مقاوماً رافضاَ للاعتراف بـ(إسرائيل) والتسوية معها، وبين فئة أخرى تتبنى نهجاً تفاوضياً. ومن جهة أخرى، فإن الخلاف  غير طبيعي، لأن الشعب الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال منذ أكثر من ستين عاماً، يُفترض أن يقف صفاً واحداً في وجه الاحتلال ويقاومه على جميع الجبهات، وأن لا يقبل التفاوض على فلسطين أو التعويل على وعود المجتمع الدولي، ولا سيما أن المشروع الصهيوني يهدد وجود الشعب الفلسطيني.
ما ليس طبيعياً في الخلاف و الانقسام الفلسطيني، أنه تجاوز قواعد العملية السياسية المنظمة للعلاقة بين القوى السياسية في إطار نظام سياسي شرعي، إلى صراع دامٍ أحدث شرخاً عميقاً في المجتمع الفلسطيني، ولا سيما بين الضفة وغزة، ما أدى إلى تفاقم معاناة المواطنين إضافة إلى معاناتهم من المحتل. كما اتخذ النظام الرسمي العربي من الانقسام الداخلي ذريعة لخذل الشعب الفلسطيني والتواطؤ على المقاومة الفلسطينية، ولاستمرار فرض الحصار على غزة وتعليق الأموال العربية المخصصة لإعادة إعمار غزة. واستغل الاحتلال  الانقسام الفلسطيني لإعفاء نفسه من المسؤولية عن معاناة الضفة وغزة الناجمة عن ممارساته العنصرية والعدوانية، ونجح إلى حد بعيد في إقناع الرأي العام العالمي بأن الأطراف الفلسطينية المتنازعة هي المسؤولية عن استمرار حصار غزة ومعاناة الشعب الفلسطيني. والمطلوب من المصالحة على الأقل تحجيم الانقسام وتضبطه ووضعه في إطاره السياسي الصحيح.

إن أربعة أعوام كاملة من الانقسام الفلسطيني تسببت في تمزيق الشعب الفلسطيني، وفقدان الثقة تماما بين شقي هذا الوطن، وفتحت الباب على مصراعيه لظهور كل أنواع الاختلافات، وبرزت الكثير من المشاكل، وقتل الكثير من الشهداء وجرح الكثير من الجرحى وأسر الكثير وعذب الكثير، وقطعت الكثير من العلاقات الأسرية والشخصية، كثير من التغيرات طرأت على العلاقة بين مناصري كلا الحركتين الرئيسيتين فى الشارع الفلسطيني، وكثير منها لا يزال لم يظهر بعد، الكثير من الدماء يتوعد أولياؤها بالقصاص لأصحابها، الكثير ممن ذاقوا الويلات لم تنته آلامهم ولا زالت جراحهم تنزف حتى اللحظة.

 من اجل ذلك أعلنها انه  لن يكون لنا وطن حقيقي إن لم نشعل الحرائق في الوجدان العام ولا قيمة لمقالات ونصوص تحترف الخوف والجزع والتستر والتقية...فإما أن نقول رأيا كشافا ومضيئا ومبرقا أو فالأولى الصمت....وكل ما سيكتب بعد ألان من مجاملة أو نفاق قولي وتستر على رداءة التمثيلية سيتحول إلى ممسحة للأحذية .

أقولها بصراحة متناهية ..إن فشلت جهود المصالحة فلن يبقى بعد هذه النكبة سوى حصان واحد نسرجه ..انه الغضب المجلجل الذي لا يذهب العقل أو يخمره ولن اقبل كفلسطيني فُرض عليه أن يتعلم التوراة قسراً ويقرأ أبنائي عن المحرقة جبراً أن أبقى في دائرة المتفرج،ومتجرعاً لغرائز القطيع وتفكير المواشي وانصياع الأغنام..

أن ما يحدث اليوم من تصدع في جدار الوحدة الوطنية،بل وانهيارات خطيرة مما ينذر بأن خشبة  الوطن توشك أن تضحي ثمرة لا عصير فيها ولا نتاج يحتم على الإنسان الفلسطيني كل في حقله أن يخرج من غرفة التخدير... ويستعيد دورة المحجوز عليه ،ويدرك أن المرحلة الحالية تحتاج إلى كلام جديد ومفردات جديدة كي تتقدم نحو المستقبل وإلا ستدفن فلسطين في ضريح التاريخ،وتتحول إلى ذكرى...

                

* رئيس الحركة الإسلامية في ام الفحم وضواحيها..

رئيس الدائرة الإعلامية في الحركة الإسلامية القطرية-الداخل الفلسطيني.