حينما يفرغ التعليم من محتواه

د. عبد الرحمن الحطيبات

د. عبد الرحمن الحطيبات

 على الإنسان العاقل قبل أن يقوم بأي نشاط أو عمل أن يحدد الهدف من هذا النشاط وما سيتضمنه من محتوى, لكي لا تقيد كثير من الوسائل يد هذا الإنسان إلى عنقه ، فإن لم يقصد هذا الإنسان تحديد الهدف و توجيه الروح نحو`ذلك الهدف، أصبح هذا النشاط إن تحقق جسداً بلا روح وأفكاراً شبه أحلام , وأعمالاً كسراب بقيعة ..

 ملايين المدارس وآلا ف الجامعات والأساتذة والمعلمين والمناهج المطورة والمحوسبة والمدعمة في عالمنا العربي , مئات الصفحات يحمل الطالب يومياً في رحلة قسرية من المدرسة وإليها, ساعات طوال يقضيها الطالب في المدرسة تزيد ساعات كثيرة عما يقضيه نظيره الطالب في الدول الصناعية...نفقات باهضة تصرف على المناهج والتعليم تفوق أضعاف ما يصرف على التعليم في العالم المتقدم, مناهج وكتب يدرسها الطالب في مدارسنا تزيد مئات الصفحات على نظرائه في الدول المتقدمة . ملايين الخريجين من الجامعات والمدارس شتى مناهجهم, شتى مراميها, ما جدوى تسكعهم على الأرصفة؟ وما جدوى تباكيهم ؟ ( تذوب الهموم في المقاهي وتشربها بين الدوالي التي جفت سواقيها)

 إن التعليم ليس مناهج معلبة ولا مواد جافة ومستوردة, ولا وريقات ومؤتمرات وندوات وهمية, ولن يكون التعليم شيئاً قليلاً من المذكرات تصور وتباع وتشترى ...وما كان التعليم سراباً من المتعلمين, ولا أشباحاً من المعلمين وليس التعليم مكاتب ولا ستائر وبذل وكرفتات...وعروض ومسارح وأهازيج .

 لا بد من عودة الوعي وإعادة النظر في جوهر عملية التعليم وأساسياته والهدف من المدارس والجامعات, والمحتويات التعليمية للمناهج لتتناسب مع بيئاتنا التعليمية وحاجات مجتمعاتنا الصناعية أو الزراعية أو الاقتصادية وأن نسعى إلى استثمار طاقات أبنائنا في الميادين والمجالات الحقيقية من الحياة , ولا يجوز أن يكون التعليم ميداناً للعب والمهادنة والتجارب الضالة المضلة,

 إن التعليم وسيلة لغاية وليس هدفاً بحد ذاته, وهدفه الرئيس أن يعرف المخلوق على الخالق , و يجب أن يكون ابتغاء مرضات الله عز وجل هدف كل علم ، وإلا دخلت إلى ميادين التربية وساحات المدارس ومختبراتها الكثير من الأصنام والأوثان والرجس، وتلبس الباطل بلباس الحق وظهرت الأهواء والشهوات في مظهر العلم وثياب التقدم ومنظار الفكر، وارتكبت جرائم عدة باسم العلم والتقدم والمدنية والحرية, وأصبح التعليم خطراً يهدد الأمن الوطني والقومي .

 أما التعليم إذا قصد به وجه الله تعالى وحده، فإن القطرة منه تفوق محيط ما سواه, والذرة الواحدة منه ترجح بالجبال الرواسي, والشعاع الواحد منه يضيء كل الظلمات ويفوق كل الشموس.

 يجب أن يتضح الهدف من التعليم ويحدد ويركز في بؤر جوهرية ليبدو لا تخفى منه خافية, أمام الدول والوزارات والمصانع والمزارع والمدارس والجامعات ,وأمام المدير والمعلم والمشرف والطالب وولي الأمر لكي يتم العمل بموجبه, في مستويات التعليم جمعيها و ويجب أن يحتل المركز الأول فيها جمعياً، وأن تتعاون الأجهزة والوزارات والمعامل على تحقيقه , وإلاّ تعددت الأهداف وتنوعت المحتويات واضطربت الوسائط والوسائل, وضاعت الجهود وعمت البلوى والفوضى.

 إن سمو التعليم من سمو هدفه, فلو كانت الدنيا كلها وفي مرافقها محوسبة, وأصبح الكون كله جامعة, وقلبت الدنيا إلى جنّة بل إلى جنان وما دام أن العلم لغير الله, ويسير في طريق لا يحبها الله تعالى لما كان لها أي قيمة،( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) بل كانت وبالاً على صاحبها. لأن مقياس الوسائط والتقنيات الحقيقي يكون بدرجة تحقيق الهدف، ولهذا وذاك فكل وسيلة تعد عثرة في الطريق إلى الهدف الموصل لله, تعد وسيلة ملعونة. لهذا المقصد لعنت الدنيا وما فيها..

 يجب أن تكون مدارسنا وجامعاتنا ووسائطنا ذات أهداف حقيقية ومعابد للفكر تقرب المتعلم من الله وتعرفه بالله وبنفسه وواقعه وما له وما عليه... عندها تجد هناك طرقاً ووسائل عديدة للالتزام بالحق وإعلائه.. ستجد بيوتاً تحلق بساكنيها في سماء المعرفة, بيوت ليس للشيطان فيه نصيب ، وستجد مدارس وجامعات تستطيع ملء قلوب أبنائها بالحب والأمل والإيمان, والعشق لله وبالله يعشقون الأرض والإنسان ... يحبون العلم والمعلم .. مثل هذه الأماكن إذا وجد التعليم محتواه فيها أصبحت أماكن مباركة, وساحات مقدسة ورياض أهل الجنة.

 أما إن فقد التعليم محتواه في تلك الأماكن أصبحت أوكاراً للأحقاد والأوغاد والضغائن ومقابر بالجملة, ومراكز تصدير للملايين من حملة الشهادات التي تضيف أصفاراً إلى المعرفة والحياة والإنسانية من الكسالى والحيارى والتائهين والعاطلين والعجزة والمردة... إذا وجد التعليم المحتوى الحقيقي والهدف الأساسي منه فلا بد أن يصبح ميداناً طاهراً مقدساً ولا بد يتصدر التعليم ويعلم الطلاب من تحققت فيه شروط علمية وموضوعية وأخلاقية وشخصية وتخصصية. ولابد من تعليم الطلاب كيفية صياغة الحياة ، ولابد من المحافظة على جميع حقوق المعلم التاريخية والحضارية والإنسانية دون أن يشعر أنه يمكن الإجهاز عليها في لحظة، و لا بد أن يعطى المعلم ما يحقق له وسائل الكرامة والعزة والعفاف والغنى النفسي والمادي دون تسويف ومماطلة ورفع صور المعاناة التي ترسم لوحة، من الألوان القاتمة تحمل رسالة مفادها أن الوضع ليس على ما يرام.