جنازة علمانية.. والميت مازال حياً

شعبان عبد الرحمن

[email protected]

الغريب في السجال الدائر في مصر بشأن مستقبل البلاد أن التيار العلماني بمعظم درجاته يتحدث بروح المهزوم - مقدَّماً - في أي منافسة انتخابية قادمة، ويتحدث بلغة البريء الذي سُرقت منه مقاعده في البرلمان، واختُطف منه دوره في إدارة البلاد.. وفوق هذا كله يعيش دور الشهيد الذي ضحى من أجل الوطن، لكن الإسلاميين خطفوه منه.. إنهم يقيمون «جنازة» لميت مازال حياً يُرزق.. وينصبون مناحة على مصيبة - وفق زعمهم - لم تقع بعد، ومن الممكن ألا تقع!

هم يتحدثون بطريقة حاسمة عن أن نتائج الانتخابات القادمة ستكون لصالح «الإخوان».. وعلى أساس أن البرلمان القادم هو برلمان الإخوان، والحكومة القادمة هي حكومتهم.. وبناء عليه فمصر ستكون في خطر!! ثم تبدأ معزوفة الهجوم الصباحي على أعمدة الصحف، والليلي في الأستوديوهات الفاخرة؛ تخويفاً وتشويهاً وتضليلاً واستنفاراً للجماهير؛ لكي تهبّ وتقطع الطريق على خاطفي الثورة!

إذا كانت الجماهير لم تنخدع بمثل هذه الافتراءات بشأن الإخوان في ظل أعتى آلة إعلامية في العهد السابق.. فهل تنخدع بها اليوم؟!

الخطيئة السياسية التي يرتكبها معظم التيار العلماني في حق نفسه اليوم؛ هو أنه يمارس دوره في المجتمع على نفس الطريقة القديمة التي ظل يمارسها في العهود السابقة؛ وهي النضال عبر الميكرفونات، أو من فوق منابر الصحف، وإن بذل مجهوداً أكبر فبحضور بعض مؤتمرات النخبة، وقد كان ذلك يصلح في عهود الكبت والجبروت وقمع الحريات، بل إن ذلك يُعدُّ كفاحاً كبيراً في ظل أنظمة كانت تعدُّ على الناس أنفاسها في بعض العهود، وتضيّق عليهم الخناق في حرياتهم، أو تتركهم ينتحبون حديثاً ولا تعيرهم انتباهاً.. كان ذلك مقبولاً من كل التيارات، ولكن بعد نجاح الثورة، أصبحت مصر تعيش في بحار من حرية الرأي والحركة، وبالتالي يكون اختزال التعامل مع الشعب المصري عبر الصحافة أو الفضائيات فقط هو خطيئة سياسية كبرى؛ لأن أعمدة الصحف وأستديوهات الفضائيات لا تبني وحدها قواعد شعبية لمن أراد خوض غمار السياسة، والمشاركة في إدارة البلاد عبر حكومة أو برلمان أو مجالس بلدية..

لكن الطبقة العلمانية مازالت عازفة عن ذلك حتى الآن، والعزوف عن النزول لجماهير الشعب والاستماع منها والتعرف عليها وتعريفها بأفكار وخطط ورؤى العلمانيين ونظرتهم للمستقبل هو انتحار سياسي بمعنى الكلمة.. وهذا العزوف يعني عندي ثلاثة أمور: إما الترفع والأنفة والاستكبار عن الاختلاط بالشعب ومحاورته عن قرب.. أو الخوف من عدم تجاوب الناس معهم؛ فتكون فضيحة.. أو الإفلاس بعينه.. وأعتقد أن الأسباب الثلاثة مجتمعة تحالفت لصدّهم عن النزول للشارع، حيث فضّلوا ممارسة السياسة من منازلهم، وعدم الاقتراب من اختبار الشعبية؛ لأنهم لو عرضوا أنفسهم لهذا الاختبار لما بقي لهم حق في الحديث باسم الشعب.

إن ميدان العمل السياسي - يا سادة - هو «الجماهير»، ومقياس قبول «الجماهير» هو صندوق الاقتراع الحر النزيه.. واليوم تعزف معظم الطبقة العلمانية عن النزول للجماهير، وترفض أول نتيجة حرة لأنزه استفتاء شهدته مصر في تاريخها.. فأيّ حديث عن الديمقراطية يمكن قبوله منهم بعد ذلك؟!

إنهم يخافون من الصندوق الانتخابي الذي أصبح أشبه بـ«الصندوق الأسود» الذي يحوي كل الأسرار، ويكشف كل الخبايا دون كذب أو افتراء.. كنت أتابع هؤلاء جميعاً وهم يبدون حماساً للمشاركة في آخر انتخابات برلمانية أجراها النظام البائد، لكن شرطهم الوحيد كان الحصول على ضمانات لنزاهة تلك الانتخابات، وهي الضمانات المعروفة للنزاهة.

كانوا على أتمّ الاستعداد جميعاً للمشاركة في الانتخابات أيام «أحمد عز» و«جمال مبارك»، لكنهم قاطعوها لعدم توافر الضمانات، واليوم توافرت الضمانات بأكثر مما كنا نحلم، فإذا بهم يطلبون مهلة، والسبب عدم الاستعداد.. هل كانوا - إذاً - يناورون في العهد السابق؟!

ومن جهة أخرى، فإن معظم هذه القوى السياسية تعمل بكل حرية في ظل وضع قانوني مريح منذ أطلق الرئيس السابق «السادات» تجربة تشكيل الأحزاب في مصر، وذلك يعني أن هذه القوى موجودة في الساحة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.. فماذا فعلت؟ إلى حال صارت؟! أصيب معظمها بالضمور والباقي يترنح.. مَنْ السبب؟ هل هم الإخوان المسلمون، أم الإفلاس بكل أنواعه؟ وإذا لم تستطع هذه القوى السياسية بناء قوة شعبية معقولة خلال ثلاثين عاماً.. فهل ستستطيع ذلك خلال عامين؟

والأغرب أنهم يتحدثون عن قوة شعبية الإخوان وحُسن تنظيمهم على أنه جريمة يجب أن تُعاقب عليها الجماعة!! وذلك واضح في تعليقاتهم ومقالاتهم.. بينما المنطق والعدل يقضيان بالإشادة والتقدير لتلك الجماعة على هذا الإنجاز، خاصة أنه تم تحت مطارق حملات الاعتقال والمطاردة والتشريد وتخريب البيوت والمؤسسات وعقد المحاكمات العسكرية.. بينما الآخرون المتباكون اليوم أو المطالبون بمهلة لمزيد من الاستعداد كانوا في كامل حريتهم، بل منهم من تحالف مع «النظام» في حربه ضد الإخوان.

وهنا أقول: لو تمت الاستجابة لهؤلاء بتأجيل الانتخابات البرلمانية القادمة أي مدة؛ فستكون تلك طامة كبرى عليهم؛ لأنهم اليوم لديهم بعض الشعبية، ولم يعرف الشعب المصري الإخوان جيداً بعد، وبعد عامين سيكون خبر الإخوان الصحيح وصورتهم الحقيقية قد وصلت إلى الناس، وذلك - لاشك - سيزيد من شعبيتهم خَصْماً من شعبية هؤلاء المتباكين.. لو تأجلت الانتخابات لن يجد هؤلاء إلا نفراً قليلاً يؤيدهم، وستكون طامة كبرى عليهم.. لماذا؟ لأنهم - فيما يبدو - لا بضاعة لديهم غير الكلام، وليته كلام مفيد، وإنما معظمه سُباب وتجريح وتشويه وتضليل ضد الإخوان.. وبينما ينطلق الإخوان بين جماهير الشعب المصري في ربوع مصر وجهاً لوجه، فضّل معظم العلمانيين البقاء خلف الجدران.. فلِمَ تلومون الإخوان - إذاً - على امتلاك الشارع الذي احتضنهم بشوق بعد طول حصار؟!

-- ------------------------------------------------------

 (*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية