الإعلام المصري

المشكلة تكمن في الأعلى!!

حسام مقلد *

[email protected]

 لا شك أن هناك شخصيات مصرية أصيلة وأصواتاً مصرية عريقة ساهمت بصورة أو بأخرى في تشكيل جزء مهم من الوجدان والعقل الجمعي المصري على مدى العقود الماضية، فتحية لهذه القمم الشامخة في عيدها الثامن والعشرين، ولكن ونحن نضع أرفع الأوسمة على صدور هؤلاء الرواد  في عيدهم يجب أن نتذكر أن الإعلام المصري يمر بالفعل الآن بمرحلة دقيقة وحاسمة في تاريخه، ويجدر بنا أن نتقدم خطوات للأمام على طريق الحل الجذري لأزمة إعلامنا بدلا من توزيع الاتهامات هنا وهناك، والاكتفاء بتوجيه النقد اللاذع لهذا أو لذاك!!

وأزمة الإعلام المصري من وجهة نظري أزمة بنيوية حقيقية تكمن في الأعلى!! بمعنى أنها لا تكمن في التفاصيل الجزئية والإجراءات والقرارات التنفيذية، بقدر ما تكمن في الفلسفة العامة لنوعية الحكم وطبيعته وماهيته وسياساته وأيدلوجيته، والرؤية العامة لدور الإعلام في حياتنا المعاصرة، وهذه الرؤية ترتبط قطعا بأفكار الطبقة السياسية الحاكمة، وتتأثر بروافد ومكونات ثقافتها المختلفة، وتتساوق مع رؤيتها العامة للكون والحياة وطريقة إدارتها للدولة والمجتمع، وعلى هذا فمشكلة الإعلام المصري تمتد جذورها عميقا وتتواصل أسبابها وتتشابك منذ سنوات طويلة خلت، والمشكلة الآن لا تنحصر فقط في المطالب الفئوية للإعلاميين التي ظهرت بعد الثورة متمثلة في حركة الاحتجاجات والاعتصامات التي تصاعدت في الآونة الأخيرة والتي تطالب بتطهير وتحرير شامل للإعلام المصري، وتنادي بتحقيق إصلاحات جذرية لاتحاد الإذاعة والتلفزيون مهنياً وإدارياً ومالياً.

ولعل من أبرز المواقف التي تؤكد وجود مشكلة جوهرية في منظومة الإعلام المصري ككل موقف هذا الإعلام المخجل في أحداث مباراة مصر والجزائر، فقد تابعنا جميعا الحملة الشعواء والحرب الكلامية السخيفة التي أشعلتها معظم وسائل الإعلام المصرية آنذاك بسبب حدث رياضي بسيط لا يمكن أن يتم التعامل معه في أية دولة متقدمة بهذه الطريقة المتخلفة التي جرَّنا إليها دجالو النظام السابق، حتى إننا وبكل أسف قد سمعنا ورأينا بعض الإعلاميين في غمرة اندفاعهم المحموم للدفاع عن الموقف المصري والنيل من الجزائر راحوا يُطلقون تصريحات انفعالية خطيرة أكبر بكثير جدا من مباراة كرة قدم مهما كانت أهميتها، وقد صدمنا البعض بشعار "لماذا يكرهوننا؟!!!" وهو نفس التساؤل أو الشعار الذي رفعه اليمينيون المتطرفون في الولايات المتحدة الأمريكية بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، فقد اختزلت أمريكا بهذا الكلام غير العقلاني المسلمين جميعا في تنظيم القاعدة، ونحن بالمثل ـ وفق وسائل إعلامنا ـ توهمنا إذاك أن العرب جميعا يكرهوننا، واختزلنا  الأمة العربية وكل مكونات عروبتنا  في مباراة كرة قدم، وفي التصرفات المشينة لبعض المشجعين المهووسين باللعبة!!

لقد حاول إعلام مبارك أن يرسم لنا صورة زائفة عن نفسه وعن مصر وعن علاقاتها بمحيطها العربي والأفريقي والدولي، وحاول في وقت من الأوقات تصوير الأمر لنا على أن هناك مؤامرة كبيرة وحقيرة تستهدف مصر وشعبها، والنيل من دورها المحوري في المنطقة، وقد أدى ذلك  في الواقع إلى حدوث قدر كبير من التشويه والتضليل الإعلامي للشعب المصري، وهذا يفسر حالة الهياج العاطفي التي رأيناها عند بعض البسطاء المصريين إبان التداعيات الإعلامية عقب المباراة المذكورة، فقد نجح  الإعلام المصري ببراعة في تأجيج مشاعر الغضب لدى قطاعات كبيرة من الشباب آنذاك، وكل ذلك بسبب (ماتش كورة!!!).

ولا نزال حتى الآن نعايش أصداء موقف إعلام مبارك المخزي أثناء أحداث ثورة 25يناير المباركة، ومازلنا نسمع اتهامات الإعلاميين المصريين أنفسهم بأن الإعلام المصري (الحكومي والخاص) لا يزال يضلل الجماهير، بل ويحرض علي الإرهاب ويدعم البلطجية ويتآمر على الثورة، وأن معظم الفضائيات الخاصة بما تبثه من أخبار وطريقة عرضها للأحداث وشحنها لعواطف الناس تعد المثير الرئيسي لحرائق الفتنة الطائفية التي تشتعل بين الفينة والأخرى...!!

إن مسيرة الإعلام المصري مسيرة طويلة ومشرفة امتدت على مدى عشرات السنين، ومن غير اللائق أن نتنكب طريق الريادة بهذا الشكل المزري وتتفوق علينا قنوات أخرى(...) ولعل من المناسب الآن بعد ثورتنا المباركة التفكير جديا في تحويل اتحاد الإذاعة والتلفزيون إلى هيئة مستقلة بعيدة تماما عن سيطرة الحكومة والدولة، لنضمن الحيدة والنزاهة والموضوعية، وحرية وشفافية تدفق المعلومات، ولتكن مثلا كهيئة الإذاعة البريطانية المستقلة تماما عن الحكومات البريطانية المتعاقبة، وطبعا هي مع استقلالها عنها تخدم المصالح الوطنية العليا لبريطانيا، فليس معنى استقلالية المؤسسة الإعلامية عن الدولة أن يسمح لها بأن تعمل ضدها أو ضد مصالحها الوطنية، كما يجب أن نسرع الخطى في إرساء سياسة إعلامية واضحة تؤدي فعلا وبصدق إلى حرية واستقلالية وشفافية الإعلام المصري، وإنشاء آلية مستقلة لمراقبة أدائه لتضمن أن يكون من أهم عوامل البناء لا الهدم، ولعله يعيد بناء جزء من القوى الناعمة المصرية التي أهدرها وبدد معظمها قهر وظلم واستبداد النظام السابق!!

                

* كاتب إسلامي مصري