الأجور والإنتاج

الأجور والإنتاج

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يتصارع أساتذة الجامعات ومراكز البحوث من أجل الحصول على مكافأة ما يسمى الجودة التي تدفعها الحكومة لمدة ستة أشهر سنويا تحت شروط متعسفة لا تمت للجودة بصلة ، المكافأة قدرها ألفا جنيه للأستاذ العامل والأستاذ الذي بلغ أرذل العمر ومازال متفرغا ، أما غير المتفرغ فلا مكافأة له . وتنخفض المكافأة بالنسبة للأستاذ المساعد ، والمدرس لتصل إلى 1500 ، و1200 جنيه يخصم منها ما تراه الجامعة تبرعا إجباريا لأغراض خاصة بها .

كاتب السطور ومثله كثيرون لم يحصلوا على هذه الجودة ، لأنهم رأوا في شروطها التعسفية ما يتناقض مع قيمهم وأخلاقهم ، فضلا عن كونها لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا تكافئ قيمة الأستاذ الجامعي وما يبذله من جهد .

في أوراق تسربت عن إحدى الشركات التي تنتمي إلى ما يسمى قطاع الأعمال ، طالعت كشوفا بالمكافآت – وليس المرتبات – التي يتقاضاها المسئولون والموظفون بالشركة في فترة ثلاثة أشهر ، أنقل منها بعض الأرقام ، لتتبين المفارقة بين من يحصد دون مقابل ، ومن يعمل ويكدح ، ولا يحصل على ما يكفي الضرورات اللازمة للحياة البسيطة :

رئيس الشركة 805300 ثمانمائة وخمسة آلاف وثلاثمائة جنيه مصري .

أحد مساعديه 452307 أربعمائة واثنان وخمسون ألفا وثلاثمائة وسبعة جنيهات .

مساعد آخر 385532 ثلاثمائة وخمسة وثمانون وخمسمائة واثنان وثلاثون جنيها .

مساعد ثالث 239707 مائتان وتسعة وثلاثون وسبعمائة وسبعة جنيهات .

أقل مكافأة بين ستة وستين موظفا هي 18567 ثمانية عشر ألفا وخمسمائة وسبعة وستين جنيها لموظفة تحمل دبلوم تجارة .

المفارقة بين أستاذ الجامعة الذي يفترض فيه أنه يعمل على مدار اليوم والليلة في كليته أو بيته ، ويشتري مصادر ومراجع وعناصر وأدوات لأبحاثه وتجاربه ، ويقتضي وضعه الاجتماعي أن يترفع عن أمور كثيرة يواجهها بالإنفاق والبذل الذي يليق به ، لا يساوي موظفة دبلوم تجارة في أواسط عمرها ، ولا تبذل جهدا خارج ساعات العمل الرسمي ، ولا تنتج عملا خارقا في المكتب الذي تجلس عليه وتتناول إفطارها وتشرب الشاي ، وتحكي مع زميلاتها عن أخبار الموضة وحكايات الخطوبة والأفراح  والطبخ والأولاد والأزواج ..إلخ .

كان أستاذ الجامعة سابقا ينتمي إلى ما يعرف بالكادر الخاص ، أي الوظائف ذات الراتب المميز نظير الجهد المميز ، ولكن الأحوال انقلبت ، وصار الفراش في أحد البنوك الاستثمارية ، بل في الشركة المذكورة التي أشرت إليها قبل قليل ، يتقاضى أضعاف ما يتقاضاه الأستاذ الجامعي .

هناك خلل إذا في الأجور ، بين من يعمل ومن لا يعمل ، يقتضي موقفا حازما من الحكومة الانتقالية ، لتهدئة الخواطر من ناحية ، ودعم الاقتصاد المصري من ناحية أخرى .

الأمر ليس مقصورا على الشركة التي أشرت إليها والجامعة في هذه المفارقة الشاذة بين الطرفين ، بل هو يمتد إلى معظم المؤسسات والإدارات والشركات والبنوك والمصانع والوزارات ، فهناك أقلية تحظي بالمكافآت الضخمة والبدلات والحوافز والامتيازات ، لدرجة أن بعض المحظوظين من رؤساء هذه المؤسسات يتقاضى ما يتجاوز مليون جنيه شهريا دون جهد ملحوظ ، وهناك أغلبية لا تحصل إلا على الفتات الذي يضطرها إلى مدّ اليد ، أو سلوك طرق غير مشروعة . الأقلية تمرح في الترف والثراء ، غير المشروع أحيانا ، والأغلبية تعيش البؤس والعناء اليومي ، وهو ما يجعل الفوارق بين الطرفين كبيرة ، ومؤلمة ومؤثرة على مستقبل البلاد والعباد .

هل رئيس الشركة الذي يحصل على مكافآت تقرب من مليون جنيه في ثلاثة أشهر ، أفضل من الأستاذ الجامعي الذي يعكف على أبحاثه ودراساته ومناقشاته ليلا ونهارا كما يفترض ؟ هل عبقرية رئيس الشركة المذكور – مع احترامنا لأمثاله في كل الشركات – تصنع ما لا يصنعه غيره من إنجازات وإبداعات تتباهى بها الأمم ؟

إن ما نسمعه أحيانا عن مرتبات خيالية لبعض الشباب الذين يحملون مؤهلات متواضعة في بعض الجهات يثير الحيرة والذهول . ويجعلنا نسأل : كيف ينهض الوطن بالبحث والعلم والدرس ؟

الأمر يقتضي قبل وضع الحد الأدنى للأجور أن نضع حدا أقصى لها ، وهذا الحد يتيح أن يتحول الفارق بينه وبين ما كان من يصرف من أرقام خيالية إلى صالح أصحاب الأجور المتدنية ، وإذا أضفنا إلى ذلك إلغاء الوظائف التي تمنح لمن خرجوا إلى التقاعد بصفة مستشارين أو موظفين متعاقدين في وظائف على الورق فقط ولا حاجة إليها ، ويتقاضى شاغلوها مبالغ ضخمة من الميزانية العامة للدولة ، فسوف يتوفر مبالغ ضخمة لحساب أصحاب الأجور المتدنية .

لا أجد أي وظيفة بما وظيفة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء تستحق أكثر من عشرة آلاف جنيه ، وهي تكفي في تلك الأيام الصعبة ، حيث توفر له الدولة وسيلة الانتقال ، واستقبال الضيوف والإنفاق على متطلبات الوظيفة ، وستكون الوظيفة الكبرى في الدولة نموذجا لآخرين في بقية الوظائف العليا : رؤساء مجالس الإدارات والشركات والجامعات والمصانع والمؤسسات ، فضلا عن الوزراء والمحافظين ورؤساء المدن والأحياء وغيرهم .إن ذلك سيساعد على تغطية أجور أصحاب الأجور المتدنية ، وتشغيل البطالة المتنامية ، وسد أبواب الفساد في المناصب العليا ، بل التقليل من التهافت عليها من جانب الباحثين عن منافعهم الخاصة ، دون خدمة المجتمع والناس .

لا مفر من شطب الإنفاق السفيه أو الإنفاق الذي لا أهمية إستراتيجية له. ما الذي يجعلنا ننفق مثلا مليارات الجنيهات على الإعلام الفاسد ، والأمن الفاشل الذي يستورد أحدث أجهزة القمع والقتل والقنص والسيارات المصفحة وغير المصفحة بأموال باهظة ، والثقافة الفاسدة المضادة لهوية الأمة ، والنوادي الرياضية التي يغترف منها مرتزقة الكرة الملايين دون حسيب أو رقيب؟

ما قيمة المجالس العليا والسفلى للمرأة والأمومة والطفولة ، والأعلى للصحافة ومجلس حقوق الإنسان الذي لم ينصف مظلوما ، وبقية المجالس القومية التي لا يصغي إليها أحد ، ولا يستفيد منها أحد ؟ 

إن الوظائف في إطار الحد الأقصى يجب أن تربط مستوى المرتب بمستوى الإنتاج ، ويوضع تقويم الوظيفة بالجهد الذي يبذل فيها ، أما ترك الأمر دون تقويم جيد وجاد ، فالفساد يظل جاثما على الصدور والقلوب ، ويبقى السخط والغضب و الصراع بوصفها قنابل مزمنة  ، ومنذرا بكوارث لا يعلم مداها إلا الله .

لدينا وسائل كثيرة تجعلنا نحقق العدل أو ما يقرب منه في أجور العاملين ، بدءا من المستويات العليا حتى المستويات الدنيا ، وخاصة إذا أوقفنا أوجه الإنفاق الشكلي أو الاستعراضي أو الذي لا يفيد الأمة ، وأنا زعيم أنه يمكننا تقليص نصف الميزانية العامة مقابل الجهود الذاتية أو الأهلية التي يمكنها أن تقوم بدور كبير في الحلول مكان الحكومة والقيام بالنيابة عنها في لإنجاز كثير من المهام والخدمات  .

أما القطاع الحر فهو يخضع للعرض والطلب ، ويحدد أجوره العليا وفقا لإمكاناته ومتطلباته وحاجته ، لكن الحد الأدنى للأجور يجب أن يكون معلوما بقانون ، لأن واقع الحياة اليومية وارتفاع الأسعار ، وانخفاض قيمة الجنية ، تجعل تحديد الأجر في صورته الدنيا أمرا ضروريا  ؛ على أن يزيد هذا الأجر بنسبة توازي نسبة ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الجنيه خالد الذكر !

 إن ترشيد الإنفاق يجعل من تحديد الحد الأعلى للأجور فريضة واجبة لاستقامة الحياة العامة ، وتثبيت السلام الاجتماعي بين أفراد المجتمع ، أما الإنفاق السفيه ، مع التفاوت الرهيب بين من يحصلون على الملايين بسهولة  ، ومن يدوخون من أجل المئات ، فيؤدي بالضرورة إلى متاعب لا يحتملها الوطن ،ونسأل الله أن يبعده عنها .