الثورة المصرية وضرورة البناء

حسام مقلد *

[email protected]

بعد مثول رموز نظام مبارك البائد، وحل حزبه الحاكم الذي كان يسمى زورا وبهتانا بـ"الحزب الوطني الديمقراطي" نستطيع الآن القول: لقد نجحت بفضل الله تعالى الثورة المصرية المباركة، وتوشك أن تحقق أهدافها في إزاحة كافة فلول النظام القديم والتخلص من ذيوله، لكن علينا أن ندرك أن أي نظام سياسي لا يختزَل في رموزه فقط؛ فهذه الرموز وإن كانت العلامة الأهم والأبرز على وجود النظام إلا أن زوالها لا يعني بالضرورة انتهاء النظام تماما، وزوال منظومته القيمية وأنماطه السلوكية من التأثير في حياة  الناس، فأي نظام سياسي يكون له منظومة قوية وشبكة معقدة من البُنَى الاقتصادية والاجتماعية؛ ونتيجة لضراوة نظام الرئيس المخلوع ازداد تغوُّل هذه البُنَى التحتية المرتبطة به واستشرى فسادها في المجتمع، الأمر الذي أدى إلى تخريب المجتمع المصري وتفريغه من قواه الحقيقية على مدى ثلاثة عقود من الزمن، ونتج عن ذلك تجريف بل تبوير كثير من العقول وتبديد طاقات المصريين، ووجود خلل حقيقي في منظومة القيم، وتلوث الضمائر، واهتزاز المعايير الأخلاقية لدى قطاع  لن أقول واسعا، لكنه ليس بالقليل في سلم البيروقراطية المصرية؛ لأن النظام البائد كان حريصا جدا على محاربة النزاهة وإشاعة ثقافة الفساد بين الناس؛ لإفساد أكبر عدد من المحيطين بالنظام فضلا عن المنتمين إليه؛ وذلك لكسر الأعين، وإخراس الألسنة!!

ومن الطبيعي جدا بعد كل هذه السنوات الطويلة من الحرب المنظمة على النزاهة ونظافة اليد أن تصاب مصر بأدواء اجتماعية كثيرة وربما تكون خطيرة في بعض الأحيان، كموت الضمائر، والسلبية القاتلة، والجري وراء المصلحة الشخصية فقط، والرغبة الجامحة في الحصول عليها بأي ثمن ولو على حساب المجتمع، وشيوع ثقافة تغميض الأعين، وشيلني وأشيلك، وهشاشة بنية منظمات المجتمع المدني، ووجود جيوش جرارة من المنتفعين والانتهازيين والطفيليين والمنافقين والمرائين وكل من لا يفكر إلا في نفسه ومصلحته الشخصية فقط، والقاسم المشترك بين كل هؤلاء هو تلوث النفوس وانعدام الوازع الداخلي الذي يهدي الإنسان إلى الخير، ويرشده إلى الصواب، ويعصمه من الانزلاق إلى منحدرات خطيرة من الفساد والإفساد، واستباحة نهش وانتهاك أعراض الناس وأكل حقوقهم وأموالهم بغير وجه حق!!

ولا شك في أن ما خلفه النظام الفاسد الذي حكم مصر طيلة العقود الماضية من قيم هابطة وثقافة فاسدة، وسلوكيات منحرفة وجشع وطمع وأنانية... لا شك أن كل هذه السلبيات لن تزول من المجتمع بجرة قلم، بل تحتاج إلى جهاد كبير، فقطعا هذه السلبيات المجتمعية التي زرعها النظام فينا لا تزال موجودة لدينا رغم سقوط النظام ومحاكمة رموزه، وهذا شيء طبيعي جدا فالمجتمعات لا تتغير بنفس السرعة التي يتغير بها الأفراد، ووارد جدا أن نرى بعض الممارسات السلبية والتصرفات الخاطئة موجودة وراسخة بل ومتغلغلة في بنية المجتمع البيروقراطية؛ لأن هذه المساوئ والسلبيات لا تزال مترسبة في أعماق الكثيرين منا، وتشكِّل نمطًا من أنماط السلوك المعتاد لدينا ولو على مستوى اللاشعور، وهذه حقيقة من الحقائق الاجتماعية والنفسية التي لا يمكن تجاهلها، ففساد النظام السابق لم يكن في الفراغ، ولم يرتكب كل خطاياه وجرائمه في مجتمع آخر، ولم تظهر كل عيوبه ومساوئه وشروره وآثامه في كوكب آخر بعيد عنا؛ فكل هذا الفساد وكل هذه الجرائم وكل هذه الخطايا ارتكبت أمام أعيننا على مرأى ومسمع منا، وربما شارك بعضنا فيها بالصمت أو التواطؤ، وعدم امتلاك الشجاعة الأدبية ولا الجرأة الكافية لرفض كل تلك السلبيات والاعتراض عليها، فضلا عن السعي إلى تغييرها، بل تقاعس الكثيرون عن مجرد إنكارها بالقلب رغم أن هذا هو أضعف الإيمان!!

إن ثورتنا المباركة التي صنعها شبابنا الأوفياء الأبرار بدمائهم وقوة إرادتهم تفرض علينا جميعا الآن أن نبحث عن طرق علمية وعملية سريعة لتفكيك هذه البنية الفاسدة بداخلنا، والمبادرة بأقصى سرعة لإصلاح هذا الخلل الخطير، ومحو ثقافة الفساد والإفساد من مجتمعنا، وتطهير قلوبنا وتخليص عقولنا ونفوسنا من شوائب وأدران الحزب الوطني وفِتَنِهِ العظيمة ومفاسده الكثيرة، ومناخ الظلم والفساد الذي أوجدنا فيه، لدرجة أن الغش في المدارس كان قاعدة وليس استثناء، ولنقس على هذا كم الغش الذي استشرى في مختلف المجالات، الأمر الذي أدى إلى نزع الثقة فيما بيننا جميعا!!

علينا في الحقيقة ألا ننسى أننا نحن مَنْ صَنَعَ الفرعون وضخمناه كثيرا جدا في أعماقنا، ثم خفنا منه وأطعناه واتبعناه في كل ما يقول، وتعاملنا معه عقودا باعتباره قَدَرًا محتوما لا مهرب لنا منه، فطغى وتجبر وبطش وتغوَّل، لأننا كنا بالنسبة له تافهين بلا قيمة، وما كان منا إلا السمع والطاعة، وهذه هي سنة الله في الخلق، قال تعالى عن فرعون: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ" [الزخرف:54] وقال عنه وعن وزرائه وجنوده: "وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ" [القصص:6] لماذا؟!! "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ" [القصص:8] أي أن المنظومة كلها كانت فاسدة فاستحقت ما جرى لها من عقاب وما حاق بها من عذاب!!

ينبغي لنا الآن بعد نشوة النصر وأجواء الاحتفالات ألا نسرف في مشاعر البهجة، وألا نغالي أو نبالغ في دواعي القلق والحذر والترقب والتشكيك في كل شيء والخوف من كل شيء؛ فمن شأن هذه الحال القلقة المضطربة، أو المسرفة في التفاؤل غير القادرة على رؤية الواقع كما هو بما فيه من تحديات ومبشرات ـ من شأن هذه الحال أن تُنْسِينا أو تشوش على أذهاننا وتعيقنا عن تحديد واجب الوقت وعمل المرحلة وترتيب أولويات الأهداف الكبرى والغايات السامية التي قامت الثورة من أجلها، ومن شأنها أن تسبب لنا نوعا من الإرباك وفقدان البوصلة، وانطلاقا من قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد:11] علينا جميعا الآن أن نبادر فورا إلى شحذ هممنا، وتوجيه كل طاقاتنا لإحداث تغيير إيجابي جوهري وحقيقي في نفوسنا ومنازلنا أولا، ثم في الدوائر التي ننتمي إليها، وفي منظومة الدولة كلها، وفي جميع هياكلها ومجالاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وإلا فقد نفيق ـ لا قدر الله ـ على وهم كبير وندرك بعد عقود أخرى من التغييب والتجهيل والفقر والحرمان والإحباط أن كل ما جرى كان مجرد وهم أو سراب، وأننا لم نفعل سوى استبدال طاغية بآخر!!

علينا في هذه المرحلة المهمة أن نتجه بكل قوة نحو البناء والتعمير كلٌّ في مجاله، علينا أن نعزز من ثقتنا في بعضنا البعض، ونشدد على أنه لا مجال للإقصاء ولا التهميش، ولا مجال لأن يظن أي طرف من أطراف المجتمع أنه وحده يحتكر الحقيقة، وأن من حقه ازدراء الآخر واحتقار أطروحاته، ولا مجال للتخوين ولا للتشفي أو الانتقام؛ فهذا ليس من أخلاق الكرام، وأؤكد على أن معركة مصر ليست مع الماضي، وإنما هي مع المستقبل وتحدياته الخطيرة، فمعركتنا الحقيقية هي بناء مصر المدنية الحديثة العصرية العادلة الديمقراطية الرائدة عربيا وإقليميا ودولياً، فلنشمر جميعا عن سواعد الجد ولنبدأ على الفور في بناء مصر الحبيبة.

                

 * كاتب إسلامي مصري