الفساد ملة واحدة

احمد العربي

في غمرة هذه الثورات الشعبية المباركة، القائمة على امتداد خريطة العالم العربي، وعلى إثر تساقط أنظمة فاسدة مستبدة وبوادر تصدع صروح أنظمة أخرى، ظهر إلى العلن بجلاء حجم القهر والظلم المسلطين على شعوب المنطقة، والنهب والسرقات المنظمة التي تتعرض لها خيرات بلدانها، بواسطة حكام هم أقرب في ذلك إلى وكلاء الاستعمار الجديد وإلى سماسرة المؤسسات المالية الدولية منهم إلى مسيرين للشأن العام

أو مستأمنين على مصلحة أوطانهم أو مسؤولين أمام الله.

وقد بدا جليا أن هؤلاء الحكام قد اندمجوا نهائيا وعضويا في نسيج الشركات متعددة الجنسيات، وحولوا أنظمة حكمهم إلى عصابات منظمة لخدمتها، لا تقيم للأخلاق وزنا ولا تقدر للقيم الإنسانية قيمة، ولا تسمح بأي نقد تجاه نمط تسييرها الخصوصي للشأن العام.

واكتشف العالم كله أن الحكام «المحترمين» بحد السيف، ما هم في الواقع إلا مافيات تخبئ الأموال وراء جدران قصورها وفي دهاليز المغارات والكهوف، ومستعدة لاستعمال الفتـْوَنة والبلطجة واقتراف أكثر الجرائم دناءة ودموية وخيانة، من أجل تأبيد استغلالها لخيرات بلدانها وفرض استسلام شعوبها.

وعرفت الشعوب العربية لماذا كان حكامها عاجزين كل هذا العجز عن اتخاذ أي قرار يضمن كرامتهم، أو التوافق يوما على موقف يساند الشعب الفلسطيني، أو يحمي الشعب اللبناني، أو يحرر الشعب العراقي…، بل إن الكثير منهم قدم خدماته السخية إلى الكيان الصهيوني من أجل الظفر بمعلوماته الاستخباراتية أو مساعداته اللوجستيكية في محاصرة معارضيه وتقتيل خصومه، كما عرفت الشعوب أخيرا، وهي تستمع إلى هذيان أولئك «الزعماء»، لماذا فشلت كل مؤتمراتهم التي كانت تسمى، ظلما، بـ«القمم» العربية.

غير أن ما لم يفطن إليه أولئك الزعماء المزيفون، وقد بلغ بهم الطغيان قمته، أن شعوبهم لم تعد قادرة على تحمل المزيد من القهر والظلم، ولم تعد مستعدة للسكوت على واقع أصبح فيه الموت حرقا أرحم من الاستمرار في العيش في سفوح قيادتهم.

أما الأنظمة الغربية فقد بات واضحا أن رخاءها الاقتصادي كان ولا يزال قائما على مآسي الشعوب المستضعفة، وأن «ديمقراطيتها» مبنية على فاشية أنظمة الحكم فيها، وأن أمنها واستقرارها رهينان- في اعتقادها- باستقرار تلك الشعوب تحت القيادة الحديدية لحكامها الأبديين ورعاية مخابراتهم القوية، وهو ما يفسر الصمت المخجل الذي لزمته تلك الأنظمة منذ عقود ومشاركتها في السرقة وقيامها بإخفاء المسروق، ثم التردد الانتهازي الذي طبع مواقف حكوماتها عند بداية اندلاع تلك الثورات، وإعلانها الوقح عن تخوفها من أن يؤدي التغيير العارم إلى صعود أنظمة إسلامية، بما يقلب حساباتها الاستراتيجية في المنطقة.

أما بالنسبة إلى تلك الأنظمة العربية، التي لم تعرف بعد إلا هزات ارتدادية ضعيفة أو التي لم تقطع شعوبها مع حكامها بشكل بائن، فقد فطنت إلى أن تجنب القطيعة النهائية يوجب عليها أن تمتص صدمة التغيير وتنصاع لرياحه العاتية وتستوعب مطالب شبابه الهائج وتحترم فكره المتوهج، فاضطر بعضها إلى تقديم وعود معسولة بالتخلي عن التوريث أو التمديد، وتذكر بعضها أن لديه قوانين للطوارئ قد علاها الصدأ منذ أجيال، فيما لجأت أخرى إلى التلميح أو التصريح بتأسيس الدستور أو بتعديله وإقرار ملكيات دستورية أو برلمانية… إلخ.

غير أنها أجمعت كلها، ولأول مرة في تاريخها، على الاعتراف باستشراء الفساد في صفوف موظفيها وقضاتها ومدنييها وعسكرها، بشكل لم يعد بالإمكان التنكر له أو التغاضي عنه، ووعدت بمحاربة الفساد والمفسدين، في الوقت الذي كانت فيه، بالأمس القريب، تعتبر مجرد التفكير في تأسيس جمعيات حماية المال العام جريمة تؤدي إلى المحاكمة، وكانت تعتبر فضح الفساد وقاحة تستوجب التأديب أو كبيرة من الكبائر التي تستوجب إقامة الحد على مرتكبيها.

لقد كشفت الثورة التونسية ثم المصرية من بعدها عن خيوط مترابطة لشبكات مافيوزية كانت تدعى أنظمة، وفضحت كيف اكتنزت تلك الشبكات الذهب والفضة والماس

ولم تنفقها في سبيل شعوبها، كما كشفت الثورة الليبية من بعد ذلك عن بشاعة نظام دموي لم يشهد له التاريخ مثالا، وكيف تغول هذا النظام على شعبه الأعزل، ثم كيف توغل في اقتصاديات العالم عبر آليات الفساد والإفساد التي أتاحتها أمامه سلطة البيترودولار، حتى صار كورم سرطاني يصعب اجتثاثه أو كتلك الأمبريالية التي ظل القذافي يدّعي محاربتها في خطبه الجوفاء.

وها هي المملكة السعودية تنشئ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، للنظر في الملفات التي تتعلق بالفساد المالي والإداري المثبتة بالوثائق والحجج، والضرب على يد المفسدين الكبار الذين نهبوا أموال الأمة، بعدما كانت تكتفي بضرب المصلين الذين سهوا عن صلاتهم.

وها هي البحرين تقمع المتظاهرين بساحة اللؤلؤة بيد من حديد وتحرك محكمتها الجنائية باليد الأخرى، فتقرر متابعة ملياردير سعودي وخبراء دوليين من جنسيات متعددة لتورطهم في جرائم تتعلق بغسل الأموال عبر بنك «أوال» الذي يملكه ذلك الملياردير.

ومن المنتظر أن تكون أولى الملفات التي سوف تنظر فيها اللجنة الملكية السعودية ملفات تتعلق بذاك الملياردير نفسه الذي يـُعتقد أنه زور وثائق رسمية صادرة في أبوظبي والبحرين.

وفيما تنظر المحكمة الجنائية في البحرين في محاكمة «معن الصانع» عن مخالفته النظم المصرفية، أكد أعضاء في الحكومة البريطانية عزمهم على فتح تحقيق أولي حول العلاقة بين وزير الخارجية البريطاني «وليام هيغ» والملياردير «الصانع»، نظرا إلى دور «هيغ» المحتمل في الإفراج عن بريطانيين متورطين مع «الصانع» من أجل إبعادهم عن الإدلاء بشهاداتهم عند إحالة القضية على المحاكمة في البحرين، وذلك في الوقت الذي تحرص فيه بريطانيا «العظمى» على تكريس استقلالية قضائها طيلة تاريخها.

وقد أعرب عدة حكام عرب، بشكل متزامن، عن عزمهم على اجتثاث الفساد وملاحقة الفاسدين، مؤكدين أن مسيرة الإصلاح تحتاج إلى إجراءات سريعة وحاسمة.

أما في المغرب وقد وعد الملك بدسترة وتقوية آليات تخليق الحياة العامة وتطبيق المراقبة والمحاسبة بالنسبة إلى ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية، فهل سيكون من حظنا أن نحصل على العربون، وأن نشهد الآن محاكمة الفاسدين ممن يستغلون نفوذهم لتعطيل القوانين ويخرقونها بكل طمأنينة، وهم يتاجرون في مصائر الشعب ويبيضون الأموال المنهوبة في السر والعلن، حتى إنهم أصبحوا يعتبرون أنفسهم أسيادا والناس عبيدا؟

سيكون من حق «هيغ» أن ينفي علاقته بـ«معن الصانع»، وسيكون من حق ساركوزي أن ينفي تمويل القذافي لحملته الانتخابية، كما سيكون من حق فرنسا، انتقاما لكرامتها التي مرغها القذافي في التراب، أن تقصفه بالطائرات، ولكن ليس من حقها أن تدعي تدخلها لمساندة الشعب الليبي، وهي التي استقبلته بالأمس القريب استقبال الأبطال الفاتحين، وفتحت أمامه وأمام أبنائه أبواب الاستثمار وشراء العقارات فوق ترابها بأموال الشعب الليبي المسروقة، ولن يكون من حق بيرلسكوني أن ينفي مشاركته في جرائم العقيد، كما لن يكون من حق بريطانيا «العظمى» أن تنفي أنها باعت «الجماهيرية العظمى» ضحايا لوكيربي مقابل حفنة من الدولارات وأطلقت سراح سجين، محكوم عليه لديها، هدية فوق البيع.