الشرعية الثورية والدكتاتوريون الجدد

د. عصام مرتجى- غزة

[email protected]

(( أنا لست رئيساً حتى أستقيل.. أنا قائد ثورة للأبد ))....

وهو يردد هذه الكلمات البائسة،  تأملت وجه القذافي وماذا فعل فيه الزمن من الأفاعيل، وشق فيه من الأخاديد والطرقات الوعرة، حتى بدا كمومياء محنطة تتخبط مع عصف الريح فيها.

كان يصرخ باسم الثورة "المنسية" وشعبه مازال في الطرقات يصرخ باسم "الحرية".....  تساءلت : ألم يكن القذافي في بداية عهده ثوريا ؟ ألم يكن شابا كهؤلاء الشباب الثائرين في ميادين التحرير المختلفة .... ما الذي دفعه لأن يستبد اثنان وأربعون عاما ويشرع للناس هواه، ويمهد  لملكٍ عضوض يرثه بنيه من بعده ؟؟!! 

إن أكن معجباً فعجبٌ عجيبُ ...  لم يجد فوق نفسه من مزيد.

عجباً ، إنها الشرعية الثورية ، التي تبيح للثوار "الأبديين" أن يتهموا ‏كل من يخالفهم بأنه مشبوه، عميل، خسيس، خان الثورة وأهلها .....  ويحق "للثائر الأبدي" أن يرفع وينصب ........ويجر. !!!

الشرعية الثورية، التي جعلت كل من تحزب خان !! وترفع على أعواد المشانق في وسط الحرم الجامعي رقاب كل من حاول تشكيل حزب مخالف لحزب الثورة الأبدية !!  الشرعية الثورية التي رمت بآلاف الفلسطينيين الغلابة على الحدود بمجرد توقيع اتفاق غزة - أريحا !!

واليوم الثوريون الجدد وفي ميادين ثورية مختلفة، وبالشرعية الثورية نفسها ، يطالبون بعزل كل من كان يعمل مع النظام القديم  ""فهو خائن"" ... خان الثوار والأحرار وظل راكبا في ركب الفاسدين المخلوعين !!

ترى لو عكسنا الصورة، وبقي الحاكم وفشلت الثورات، ماذا كان سيصير إليه مصير هؤلاء الثوريين والمطالبين بالتغيير .... سيكونون خونة وعملاء ومأجورين ويجب محاكمتهم ، سجنهم أو إعدامهم !!!

هكذا هو الحال في بلاد العرب التي لا زالت تضربها تبعات زلزال بوعزيزي.

وفي هذه الأوضاع التي لا تشف عن مستقبل واضح، يقف الناس متابعين حائرين ينتظرون نهاية المشهد.

ولكن، وفي الوقت نفسه ، هناك أناس لا تنام ... تحسب، تطرح وتجمع وتضرب، تتنبأ لمن المستقبل ... فإن كان أقرب للثوار ، حزموا أمتعتهم وشدوا رحالهم ونزلوا ميادين التحرير .... وإن كانت الكفة لا زالت راجحة للنظام ظلوا مطبلين مزمرين له ... وبحذر شديد دون أن يلحظهم الثوار !!!

حتى من ليس له في العير ولا في البعير ولا النفير، كان لزاما عليه أن يستشرف المستقبل ويتنبأ لمن الكفة سترجح ... وعليه أن ينزل ميدان السياسة مرغما !!

كثيرون من الفنانين والفنانات، الراقصين والراقصات، ومن أهل الطبل والمزمار وجدوا أنفسهم مجبرين أن يكون لهم في السياسة رأي .... مع النظام أو ضده ؟؟!  في الميدان أم من خارج الميدان ؟؟!!  لكي لا يدفعوا الثمن الباهظ من الإقصاء فيما بعد!

وصار قانون العصر اللعين ................ من ليس معنا فهو ضدنا ..!!!

ثوار الميدان وضعوا قائمة سوداء بأسماء من وقف مع النظام ورفض الثورة....

والسؤال الذي يطرح نفسه :  من حقك أن تكون ثائرا ضد نظام ما، ومن حقك أن تدعوا لنظام جديد ودستور جديد...... ولكن هل من حقك أن تخون من لا ينزل معك الميدان ؟ هل من حقك أن تجبر الناس كلهم أن يكونوا معك ؟ وهل من حقك أن تضع الناس في قوائم سوداء إن هم عارضوا تيارك .... أو حتى ثورتك ؟؟!!

هل من حق كل من قام بثورة أن يكون الدكتاتور الجديد ، ويقول للناس ... "لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد" ؟؟!!

قد يدعم الناس الثورة لتحدث تغييرا في حياتهم ، ويدفعوا ثمنا باهظا لإحداث التغيير المرجو... ويعطون الثورة شرعية لتحررهم .... ولكنها لم تأتي بهم ليستبدوا ويقصوا الآخرين ويحاكموا كل من خالفهم الرأي.

منذ المرحلة التاريخية التي أتت بعد  سايكس بيكو، ومعظم الأنظمة العربية، التي جاءت في لحظات مختلفة من التاريخ، كانت تصف نفسها بأنها ثورية ، إما ضد احتلا ل أجنبي أو ضد نظام ملكي مستبد... ثم ما لبثت أن صارت هي نفسها مستبدة.

هذا الاستبداد كانوا يسوقون له مبرر العدو الخارجي، وهذا ما كان يطيل عمر النظام والزعيم الثائر.... حتى أن القذافي جاء ليستجدي شرعيته ويلقي خطابه من المكان الذي قصفته أمريكا فيه في زمنٍ بائد، ونسي انه دفع لهم الثمن ليرضوا عنه فيما بعد! .

ولكن الشعوب أدركت بأن فزاعة العدو الخارجي ما هي إلا خديعة، ليستطيل عمر النظام ويسلب من الناس حريتهم وكرامتهم وخبزهم باسم مقاومة الخطر والعدو القادم من الخارج. وبعدما يستحكم النظام من رقاب الناس وخبزهم يرجع لينسق ويستجدي ود ورضا من كان يصفه "بالعدو الخارجي"  .!! 

في النهاية أقول ، لا يوجد ثورة للأبد.  ولكن يوجد ثورة تستمر لفترة زمنية "محدودة" ، تساعد على حدوث التغيير، بحيث يقف كل الناس سواسية في الحياة المدنية أمام القانون الذي يرتضيه الناس (وليس ما يرتضيه مجموعة الثوار) ، ولا ميزة ولا حصانة أمام القانون لأي أحد، كائنا من كان. ولا يحق للثائر أن يأخذ أكثر من وقته الذي حدده الدستور (الذي ارتضاه الناس) فوق رقاب الناس.

فحصاد الثورة من حق الناس عامة وليس من حق الثوار خاصة.

فمن حق أي فرد في المجتمع ، ووفقا لمؤهلاته،  الاحتفاظ في موقعه الوظيفي السابق في الدولة. ومن حقه التنافس على المواقع المختلفة في الدولة،  طالما لم يدان بجرمٍ يفقد حقه في مكان عمله.

فالناس لا يريدون أن يجدوا أنفسهم يكررون المأساة ........ "مات الملك ،،، عاش الملك".