المثقف عندما ينهار أمام الثورة

جابر عصفور وزاهي حواس ...

د. أسامة الأشقر

لم أكن يوماً أميّز المثقف عن غيره من العامة في تواطؤه أو تميّزه ، فهو شريحة من الناس تنتقل بين شقوق الصفوف وتتزاحم أكتافها لطلب السلطة أو الجاه أو المال ، ولم أكن أرى أن ادعاء الثقافة يوماً ستحمي المجتمع من تغوّل السلطة وإسرافها في حق الشعب وحق الأمة ، بل إن الأمر على العكس من ذلك : إذ إن المثقف بامتلاكه اللمسة البيانية ، وأدوات التأثير والاتصال ، والعقل القادر على تأويل الأشياء والانتحاء بها عن مجاريها الحقيقية أو بالأحرى تزييفها وتزويرها ، هو الشريحة الأخطر ولاسيما إذا كان يمتلك بعض النفوذ الإعلامي والجاه الماليّ.

كان سقوط جابر عصفور مدوياً ، وهو المثقف الأكاديمي ذائع الصيت في عالم النقد والذي قدّم نفسه عبر عقود طويلة باسم التنوير الذي يعني في لوازمه تغيير الثقافة السائدة والانصراف عن الموروث السياسي أو التقاليد الشائعة ، ولم يكن الذكاء الإنسانيّ أو الفطنة في مفاهيمها العادية لتغفل عن تنبيه هذا الرجل إلى خطورة  خطوته بالهبوط إلى هاوية قبول التوزير في حكومة لا تلبث أن تهوي بشدة على ضغط فورة الناس وثورتهم  وغضبهم ، تلك الثورة التي هي كالسيل تجتاح كل من تعلّق بقشة الأشواك التي غطّت الأرض القاحلة واستخرجت ماءها واستهلكته في تنمية حدة أشواكها ويباسة سيقانها وأغصانها ، وقباحة هيئتها وشعوثة أشعارها .

وأحسب أن هذا النمط من المثقفين المتخصصين الذين تغريهم المصطلحات الحديثة ويستطيلون في بسطها وشرحها وتنوير الناس بمستقبلها هم أدوات سهلة التحريك من جانب سلطة السياسة وسلطة المال لأنهم يفتقرون إلى ذكاء تكتيك السياسيين وقدرتهم على العزل والمناورة واللعب في الهوامش الصغيرة .

لقد أراد منه النظام المتهاوِي والذي يتشبث بمنابر الهواء وعوالق الغبار وغوامض الضباب الثقيل أن يكون المثقف المتزن اللابس الذي يغطي المناطق الأكثر انكشافاً وتعرياً ، وأرادوا منه أن يكون المتنوّر النظيف الذي يضع فوق السخائم والشحابير ملاءة بيضاء ناصعة تعكس أشعة الحقيقة وتقلبها .

إن أكثر ما يغضبنا وما يؤلمنا وما يحزننا أيضاً أن يضحي جابر عصفور وزاهي حواس وهما اثنان من ثلة من أكثر الأسماء الثقافية المصرية حضوراً في عالمها الثقافي المصري ، أن يضحيا بالتنوير والسطوع من أجل كرسيّ نخره السوس ينتظر ريحاً نافخاً تطيّر رطوبة رِمّته .

كان بإمكان الرجلين أن يكونا نجمي الثقافة الساطعين ، وأميراها المتوّجَين لو قالا : لا ؛ لن نخون الأمة ، ولن نبيع ثورة الشعب ، ولن ننسى من حاصر غزة وخنق صمودها.