تونس: من يقطف ثمار ثورة الشعب

م. حسن الحسن

[email protected]

رغم كل النشوة التي تعتمر الصدور جراء هذا التحرك المشهود، فإنّ المستقبل السياسي في تونس ما زال يكتنفه كثير من الغموض ويمتلئ بالضباب.

ميدل ايست أونلاين

عصفت رياح التغيير بنظام الحكم في تونس فألقت برأسه إلى المنفى بعدما كسر الشعب حاجز الصمت والخوف واندفع ثائراً على الظلم والجور ككرة ثلج متدحرجة تكبر وتقوى بمواقفها وحشودها كلما تقدمت، لتقدم مفاجآت متعاقبة كان يصعب توقعها بل وتسبق في أكثر الأحيان مجرد التفكير بها.

وهكذا جابت الجماهير الشوارع احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية المتردية ابتداء، مطالبة بحقها في التعبير والعيش بكرامة تالياً، وبإسقاط الظلمة ومحاسبة الفاسدين وخلع الطاغية من عرشه لاحقاً، لتنتهي بالمطالبة باستعادة حقها في السلطة وبتغيير النظام الحاكم برمته.

وفيما يواكب الجميع مستجدات ثورة الأحرار للمشاركة في توجيه الأحداث أو التفاعل معها، فإذا بالنظام ينهار وبالرئيس يفر وبالفوضى تعم لتدخل تونس مخاض التغيير من خلال عملية رد فعل جماعية وعفوية حصل فيها نزيف مع كل طلقة خفق بها رحم الشعب للخلاص من النظام المريض.

إلا أنه رغم كل النشوة التي تعتمر الصدور جراء هذا التحرك المشهود، فإنّ المستقبل السياسي في تونس ما زال يكتنفه كثير من الغموض ويمتلئ بالضباب، سواء لجهة محاولات النظام التونسي المقيت إعادة تجديد نفسه من خلال استعمال الدستور أو التحالف مع المعارضات الهشة أو إجراء صفقات مع آخرين يتوقون إلى السلطة، أو من خلال افتعال القوى الأمنية المرتبطة به حالة من الاضطراب لفرض الأمر الواقع بالتعايش معه عبر معادلة تخير الناس بين "أمنه" أو الخراب.

وفي ظل غياب قوى منظمة تمثل وتقود الشعب الثائر إلى خلاصه وإلى تطبيق نموذج حكم مستقر، آمن وعادل، يلبي حاجات الشعب وتطلعاته بعيش كريم في عزة وكفاية وكرامة واطمئنان، يبقى الجيش العامل الحاسم في رسم صورة المستقبل السياسي في البلاد. فالجيش يستطيع حسم مستقبل تونس السياسي بشكل مشرف من خلال

(1) فرض الأمن في الشارع والمؤسسات

(2) استعادة السلطة من الحزب الحاكم وإيقاف أي محاولة لاستمرار أي شكل من أشكال النظام المخلوع

(3) اعتقال المسؤولين عن عمليات القتل وتفشي الفوضى والفساد كمقدمة لمحاسبتهم على الملأ

(4) التواصل مع الممثلين الحقيقيين للشعب والتنسيق معهم لإنقاذ البلاد

(5) إعادة بناء الدولة في تونس على أساس الهوية الجامعة للأمة

(6) صد أي محاولة لتدخل الدول الغربية في شؤون البلاد.

ولإتمام هذه العملية بسلاسة وبشكل سليم، فإنّ على القوى الحية المخلصة الحريصة على مستقبل هذا البلد وهذه الأمة التنسيق والتواصل فيما بينها واحتضان العناصر المعروفة بصدقيتها ونزاهتها في الجيش لحماية البلاد والعباد وكذلك دوام اليقظة والحذر من قيام بعض المتنفذين في الجيش من الالتفاف على مطالب الشعب بإجراءات صورية لتحقيق مصالح خاصة بهم فيعيدوا إنتاج النظام السابق بشكل أو بآخر.

في السياق ذاته فإنّ ما يقع في تونس يُعد نموذجاً هاماً للغاية، سواء لأثره في واقع ومستقبل أهل هذا البلد، أو لقدرته على إلهام شعوب هذه البقعة المظلمة من العالم للتحرك نحو تغيير هادف وجذري وشامل. ومن هنا فإنّ مدى نجاح هذا النموذج في إتمام عملية التغيير ستكون له تداعياته على بقية شعوب المنطقة، التي تعتبر وحدة متكاملة وامتداداً للأمة الواحدة، والتي بات أهل تونس يشكلون طليعتها الرائدة في عملية التغييØ ± في هذه اللحظات الحرجة من تاريخ أمتنا. وقد جاءت هذه الأحداث كبارقة أمل كبيرة لتكشف مجموعة هامة من الحقائق التي غُيبت عن أنظار أمتنا.

أ: إنّ القدرة على التغيير من داخل أوطاننا وبسواعد أهل البلاد أمر ممكن تحقيقه.

ب: إنّ الانعتاق من التبعية للقوى الكبرى رهن إرادة الأمة وعزيمتها واستعدادها للتضحية والفداء، لا بالركون للقوى الأجنبية أو الاستجداء بها وانتظار معونتها.

ب: إن التغيير الحقيقي الذي يستند إلى إرادة الأمة كفيل بالتخلص من الأنظمة الطاغوتية من غير عازة للانخراط فيها أو مداهنتها.

ج: إنّ الشرعية الشعبية التي تدعيها الأنظمة القائمة هي شرعية مدعاة ومكذوبة، حتى لو خرجت جموع الناس تهتف بحياة الطاغية، أوأدلت باسمه في صناديق الاقتراع. حيث أن كل هذا يأتي من خلال عملية تزوير أو ابتزاز أو ترهيب وإكراه، وكما هو معروف فإنّ حكم ما يترتب على هذا من نتائج باطل استناداً إلى القاعدة المعروفة "ليس على مستكره بيعة".

د: إنّ التقارير التي تذاع بين الفينة والأخرى بخصوص التنمية والازدهار والنجاح الاقتصادي لهذا النظام الفاسد أو ذاك مجرد دعايات رخيصة للترويج له ومنحه دعماً معنوياً، فتونس التي اعتبرها جاك شيراك معجزة اقتصادية ظهر أنها عاجزة في ظل نظام بن علي عن تأمين الحاجات الأساسية لأبنائها. وينسحب هذا على مجمل التقارير التي صدرت بهذا الصدد، والتي تروج عادة لتغطي على عورات النظام القمعي الاستبدادي الفاسد.

هـ: إنّ القوى الغربية التي تتشدق بالديمقراطية والحرية وسيادة القانون تكفر بقيمها وبمقدساتها عندما تتضرر مصالحها لتكشف بذلك أن منفعتها الخاصة هي معبودها الوحيد. أكد ذلك استعداد الحكومة الفرنسية لمد نظام بن علي بخبراتها لقمع الشعب الثائر في تونس، وتأييد إصلاحات بن علي المدعاة في خطاباته قبل فراره، ومن ثم قبولها بالإجراءت غير الدستورية التي عين بموجبها الوزير الأول محمد الغنوشي رئيساً مؤقتاً للØ �لاد. فيما اكتفت بريطانيا بالتصريح المكرر بأنها تتابع الموقف عن كثب. بينما سبق أن تحركت هذه الدول بسرعة البرق لاحتضان التظاهرات سواء في إيران أو لبنان أو في شرق أوروبا. أما أميركا فقد اختلفت ردة فعلها (ليس لحرصها على أهل هذا البلد بالطبع) إنما لتنافسها مع أوروبا على احتواء تونس، فرحب أوباما بما جرى وكذلك أثنت وزارة الخارجية الأميركية على قادة الجيش، مما يضع علامات استفهام حول إمكانية نفاذها إلى هذه المؤسسة وطمعها في استيعاب التحولات المفترضة في هذا البلد من خلالها!

أخيراً وليس آخراً، لقد أدرك الجميع بأن هذه الأمة ما زالت حية، لم ولن تموت بإذن الله، وستسير حتماً نحو خلاصها ونهضتها وعزتها مهما كبت وتعثرت، وأنها ما زالت قادرة على الانعتاق والسير إلى الأمام وأخذ زمام المبادرة بيديها من جديد.