متى استُحِلت دماء الأقباط وقد وهَبَهم الله الحياة

حمّودان عبد الواحد

متى استُحِلت دماء الأقباط

وقد وهَبَهم الله الحياة ؟؟؟

حمّودان عبد الواحد - فرنسا

 متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ...؟؟؟

هذا ما تشهد به صفحة خالدة من صفحات التاريخ الاسلامي العادلة على لسان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمّا وجّه هذه المقولة إلى والي مصر آنئذ عمرو بن العاص بعد أن اشتكى له مصري قبطي من مظلمة صدرت في حقه من طرف محمد بن عمرو. 

ياله من مشهد ، وياله من كلام ، خصوصا حين نعرف أنّ الخليفة عمرتفوّه بهذا المبدأ الحقوقي الانساني العظيم بعد أن اقتصّ من ابن والي مصر المسلم في حضرة أبيه لامسا صلعة هذا الأخير وكأنه يُنبّهه ويُذكّره بحقيقة لا تقبل المساومة ولا يُمكن التعامل معها بمعيار القانون الاجتماعي أو الانتماء الديني... هذه الحقيقة اسمها الحرية وهي كالحياة هبة من الله وهما  أعز ما يملك الانسان ولا يحق لأحد تحت أيّ ذريعة أن يَحْرمَ الآخرَمنهما ...

أين هو واقع العرب والمسلمين اليوم من هذا الموقف التاريخي المُشرِق ؟ لم تعد لا الحياة ، ولا الحرية ، من القيم الغالية المقدّسة ، فاستباح المجرمون والمتفنّنون في أساليب القتل والعنف والفوضى والفتن دماء الناس في العراق وفلسطين والسودان وأفغانستان وبلدان أخرى في العالم العربي والاسلامي. هؤلاء العابثون في الارض فسادا لا يفرقون بين المسجد والكنيسة ، بين المدرسة والمقهى ، بين البيت والشارع ، بين السوق والبريد ... وها نحن بعد مجزرة كنيسة بغداد النكراء ، نقف حائرين مشدوهين أمام فجيعة جديدة ومأساة دموية ذهب ضحيتها مواطنون مصريون ، أقباط مسيحيّون أبرياء كانوا يصلون في كنيسة القديسين بالاسكندرية فاستهدفهم تفجير قام به على ما يبدو انتحاري.

من قام بتنفيذ هذه الجريمة في حقّ أناس كانوا يصلون داخل مكان عبادة وابتهال ومناجاة ، داخل محيط سلم وأمن وسلام ؟ السلطات المصرية وأغلبيّة المراقبين ترى أنّ الايادي التي ارتكبت الجريمة الشنعاء أجنبية أو وراءها عقول خارجية. على كل حال ، لا يوجد من يذهب إلى اتهام جهات داخلية مصرية مثل المعارضة السياسية المتمثلة في الإخوان المسلمين. من المقصود إذن بالعناصرالأجنبية أو الخارجية ؟

صحيح أن الجواب الذي يفرض نفسه بسهولة ويأتي توّا إلى الذهن يقدّم تنظيم القاعدة باعتباره المرشح لأن يكون المتورّط في هذه العملية الإرهابيّة. والذي يعزّز هذا الاتهام هو أنّ القاعدة كانت قد هدّدت قبل شهر أقباط مصر. لكن هذا لا يمنع ، في انتظار نتائج التحقيقات التي بدأتها الشرطة المصرية ، من طرح تساؤلات حول احتمالات أخرى. فمن المحللين والمراقبين من يوجه أصابع الإتهام إلى إسرائيل والموساد ، ويذهب في نفس الإتجاه أيضا كل من الإخوان المسلمين ومحامي الأقباط وغيرهما. والمتتبّع لتعليقات القرّاء الإنترنتيّين حول هذا الموضوع في الصحافة العربيّة الإلكترونية يخرج بانطباعات متعدّدة ومتناقضة لكنها لا تخلو من فائدة وربّما يكون بعضها على صواب. لكنّها في أغلبيتها الساحقة ـ أنظر على سبيل المثال الجزيرة نت والقدس العربي ـ تصبّ جام غضبها على الصهاينة الذين دخلوا في حرب من نوع جديد مع العرب هدفها خلق الفتن والتفرقة الطائفية حتى يستطيعوا بسهولة السيطرة على زمام الأمور.

وعلى عكس تعليقات القراء العرب ، فإن قسما كبيرا من ردود فعل القراء الفرنسيين ـ أنظر مثلا جريدة ليبرسيون ولوفيكارو ولوموند ـ  يترجم عن طريق استعمال عبارات سوقية وجمل نابية، وكذلك أفكارا مسبقة جاهزة ، غياب العقلانية وبرودة الدم ، ومدى المحدودية في فهم الأحداث وتفسيرها والتعامل معها ، ودرجة العداء الذي يكنونه للاسلام كدين وحضارة... فهؤلاء يصبّون جامّ غضبهم على المسلمين عامة ويقدمونهم كشعب متوحش غير متحضر ولا يؤمن إلا بالقتل والتخريب والعنف... بل إن عددا لا يستهان به يذهب إلى الاعتقاد بأن مصدر كل العنف الموجود عند المسلمين هو القرآن نفسه...

لماذا لا نتريث بما فيه الكفاية حتى لا نخطأ في حق أحد ولا نتصرّف بطريقة غير مسؤولة تعود عواقبها بآثار سيئة وسلبية على التعايش السلمي المنشود في المجتمعات الانسانية ؟ لماذا لا نسمّي الأشياء بأسماءها الحقيقية حتى لا نخلط بين الحقائق أو نزورها كما يحدث غالبا حين نعتبر " الاسلاميين " المرادف الفعلي لكلمة " الاسلام " ؟ إن تسمية الاشياء بطريقة غير سليمة هو شبيه ، في حالة مأساوية كالتي يمر بها المصريون اليوم بل والعرب كلهم دون استثناء ، بصبّ الزيت على النار أو النفخ على الجمار.

الذي يسترعي الانتباه أنّ التفجيرات والعمليات الارهابية ضد المسيحيين في الشرق الأدنى والأوسط لم تظهر إلا بعد الغزو الأمريكي للعراق والتدخل في شؤون السياسة الخارجية المصرية من أجل توجيهها في صالح الأمن الاسرائيلي على حساب فلسطين المحتلة. فالمسيحيون كانوا مثلا محط اهتمام كبير وحماية دائمة في زمن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، واليوم يبدو واضحا للعيان أنّ المحتل الأمريكي وممثلي العقائد والأعراق والقبائل من السياسيين العراقيين في الحكومة الحالية ليسوا بقادرين على حماية أنفسهم بله المواطنين العراقيين المسيحيين.

أغلب الظنّ أنّ الباعث وراء هذه العمليّة الإرهابيّة ليس دينيا، إنّما هو سياسي وإيديولوجي. إنّ الهدف الحقيقي والرئيسي الذي يرمي إليه منفذو قتل الأبرياء من المصريين المسيحيين في تفجيرات الاسكندرية ليس هو المسيحية أو المسيحيون بل التواجد السلمي الذكي عبر السنين والقرون بين المسلمين والأقباط . والذي يدخل في هذه اللعبة يكون كمّن يقبل بالخسارة  الجماعية ويرضى أن يفقد عضواً ضروريا من أعضاء جسده التاريخي والثقافي ، الروحي والأخلاقي ، بل والاجتماعي الانساني. كل من يدفع بنفسه إلى المشاركة في حلبة المزايدة على العنف لن يخرج منها إلا منهزماً ، ولسوف يكون مسؤولا بطريقة مباشرة وملموسة عن الانتحار الجماعي الذي يهرول نحوه كل فاقدِ عقلٍ مُصاب بشعلة الجنون أو الغضب ، وعمى الجهل والحقد والكراهية.

الحل الذي تنتظره الشعوب وتتوق إليه - لأنه أصبح يقيناً على رأس قائمة أحلامها الكثيرة الصعبة التحقيق إن لم نقل المستحيلة – اسمه العدل ، وهو لصيق بالحرية والمساواة وحقوق أولية أخرى من حقوق الانسان... والحرب على الارهاب يجب أن تعلن على الأرضية الخصبة التي تترعرع فيها جذوره ... هذه الجذور التي تحمل أسماء من مثل الفقر والأمية والبطالة والظلم وانعدام الحرية والمراقبة ... هي التي تفرز في فوضى واكتظاظ اعتباطييْن نباتاتٍ مهمّشة تتغذى من الضغوط المحيطة بها فتتربّى في وحشية حتى تكبرَ وتصبحَ قادرة ومستعدّة على الالتفاف حول الآخرين والإساءة إليهم ، حتى لو كانوا أفرادا من نفس الأسرة. ولنتذكر في هذا المقام ما قاله الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ  بصدد ظاهرة الإرهاب غداة تعرّضه لعدوان بالسلاح الأبيض من طرف شاب متطرف دينياً : » علينا أن تذكّر أنّ هذا الاتجاه هو في الأساس ردّ فعل لأوضاع متردية ، وبقدر ترديها يُقدّرُ العنف الذي تتخذه ردّة الفعل .« وحين يُطرَحُ عليه السؤال الحارق » : هل ظاهرة الإرهاب تزعزع معرفتك الراسخة بهذا البلد أو ثقتك في مستقبله ؟  « ، يجيب دون تردّد  » : لا لأنّ الطبيعة التي عاش بها هذا الشعب سبعة آلاف سنة سيكون لها الغلبة في النهاية ، فهذه الظاهرة الدخيلة هي نتيجة لظروف طارئة ، ستزول بزوال الظروف التي أوجدتها (1) . «

                

 (1) أنظر المختارات ، مجلة معهد العالم العربي ، باريس ، العدد ٥٤ ، السنة ٢٠٠٤