العقيدة القتالية للجيوش

عبد الرحمن يوسف القرضاوي

عبد الرحمن يوسف القرضاوي

عقيدة القتال في الجيوش تعتبر أهم ما فيها، ليس السلاح، وليس التدريب، وليس أي شيء آخر، لأن الأساس المعنوي "الأخلاقي" للقتال هو الذي يحدد للجندي في المعركة جدوى أن يموت، أو أن يصبح معاقا، وهو الذي يبرر له طاعة الأوامر التي يوجهها له أناس لا يعرفهم، وربما لا يعرف جدوى هذه الأوامر على المدى القريب أو البعيد.

العقيدة القتالية للجيش هي التي تفرق بين الجيوش المنظمة، وغيرها، هي التي تفرق بين المناضل المجاهد، وبين البندقية المعروضة للإيجار لأعلى سعر.

كثير من الجيوش تبدأ بعقيدة قتالية حقيقية، يبذل الجنود والقيادات من أجلها كل غال ونفيس، ثم تتحول هذه الجيوش مع الوقت إلى الكسل، والدعة، وتصبح غير عابئة بمهماتها الحقيقية، وتنصب اهتمامات الجند والقيادات على مكاسب المناصب، ومميزات الانضمام إلى السلك العسكري.

من أوضح الأمثلة على ذلك الجيش الإسرائيلي، فإذا قرأت مذكرات شخص مثل (آرييل شارون)، ستعرف الفارق الكبير بين الطلائع الأولى لجيش الكيان الصهيوني، التي أسست هذه الدولة العنصرية الغاصبة، وبذلت من أجل ذلك الدماء، وقامت بعمليات جريئة جدا، وخاضت حروبا عديدة، وبين شباب الجيش الإسرائيلي المرفهين (حتى وهم على الجبهة) اليوم.

شباب الجيش الإسرائيلي اليوم ليسوا مثل جيل شارون، فكل همهم حماية أنفسهم من القتل والإصابة، لذلك تنفق إسرائيل مليارات الدولارات من أجل اختراع أسلحة تمنع المواجهة المباشرة بين جنودها وبين أعدائهم، أو من أجل اختراع مدرعات لا تؤثر فيها الصواريخ والقنابل.

أمور كثيرة جدا تؤثر في العقيدة القتالية للجيوش، ولكن من أهمها ثلاثة أمور :

أولا : السلم لفترات طويلة

 وضرر ذلك أنه يؤدي إلى ترهل القوات، وإلى تناقص الخبرات القتالية، علاج ذلك يكون بكثرة التدريبات والمناورات، ولكن هناك خبرات لا يمكن نقلها بالمناورات والتدريبات، أرض المعركة ليس لها مثيل، والحرب معلم لا نظير له.

أما ضرر أن لا يحارب الجيش لأجيال، فإن ذلك يؤدي إلى انقطاع تراكم خبرات معينة، فتصبح هناك فجوة بين الجيل الذي حارب، وبين الأجيال اللاحقة، ولا يوجد أسوأ من جيش ليس فيه خبرات حربية (حقيقية).

أسوأ ما في فترات السلم التي تمتد عشرات السنين أن الجيوش فيها تصبح مهددة فعليا، فيصبح الانضمام لهذه المؤسسات من أجل مميزاتها، دون دفع ضريبة ذلك من القتال، وبالتالي يصبح القتال أمرا ثقيلا على النفس، وتحاول هذه المؤسسة أن تتجنبه حتى لو كانت الضرورة تقتضيه.

الحرب ليست غاية في حد ذاتها، ولكنها أمر لا بد منه عندما يكون ثمة اضطرار لها، ولا يمكن لقادة الجيوش أن يتمثلوا هذه الحقيقة إذا كانت لديهم أولويات أخرى غير عسكرية، سياسية أو اقتصادية مثلا، وهذا ما تتورط فيه الجيوش التي لا تقاتل.

ثانيا : الحرب المستمرة لسنوات طوال

 الجيوش حين تحارب لا تحارب وحدها، بل تقوم بإعداد الدولة كلها للحرب، والدولة حين تقف مع جيشها لا تقف وحدها، بل يقف المجتمع معها أيضا، وبالتالي تتأثر جميع الأنشطة الإنسانية بخوض دولة ما للحرب.

لذلك ترهق الحروب الطويلة سائر الدول، وهو أمر نسبي طبعا، فدولة مثل إسرائيل، تخوض عمليات عسكرية تمتد لساعات أو أيام، وبذلك تكون حربا (نموذجية) للجيش، ولكن حين تمتد العمليات العسكرية لأسابيع وشهور، تصبح إسرائيل (لأنها دولة صغيرة) في مأزق، وتصبح المعركة أصعب.

بعض الحروب تمتد سنوات، وهذا اختبار للجيش، وللدولة، وللأمة.

الحروب الطويلة كانت من أهم أسباب انهيار الجيش العراقي مثلا، امتدت حروب العراق لأكثر من عشرين عاما شبه متصلة، الحرب العراقية الإيرانية وحدها امتدت ثمان سنوات متصلة، وخرج منها الاقتصاد العراقي منهارا، والمجتمع العراقي منهكا إنهاكا تاما.

لي صديق عراقي قضى على الجبهة أكثر من عشر سنوات لم ير فيها منزله إلا عدة مرات !

لذلك كان لا بد أن ينهار الجيش العراقي، فالدولة انهارت، والمجتمع نفسه لم يعد قادرا على خوض المزيد من الحروب تحت عقيدة قتالية ترفع شعارات كاذبة.

ثالثا : قتل المدنيين العُزَّل

 من أسوأ ما يمكن أن يغير العقيدة القتالية في الجيوش، ومن أسوأ ما يمكن أن يؤدي إلى تفتت الجيوش، أن تقوم القوات بقتل المدنيين العُزَّل لفترات طويلة، أو على مدى واسع.

هذا الأمر يحول المقاتل إلى جبان، ويهُدُّهُ من الداخل، وقد حدث ذلك من جيوش كثيرة من أهمها الجيش الإسرائيلي.

في عهود تأسيس إسرائيل لم تكن هناك أي حالات تهرب من التجنيد، فضلا عن أن تسجل أي حالات اعتراض على التجنيد، ولكن بعد أن أصبحت عمليات الجيش الإسرائيلي عبارة عن قتل للمدنين بالطائرات والدبابات، ومجازر للأطفال والنساء والشيوخ، ودون أي حروب حقيقية، حروب من طرفين، حروب يشعر فيها الجندي أنه مقاتل، وليس مجرد سفاح، حين حدث ذلك سجلت حالات كثيرة من الامتناع عن التجنيد، وبحثت ساحات المحاكم عدة قضايا من هذا النوع.

من أهم مشاكل تكليف القوات بقتل المدنيين أن المقاتل يفقد حاسة القتال، ويتحول من مقاتل إلى قاتل، وشتان بين الاثنين.

لذلك لا تستغرب أن ترى هذا النوع من القتلة يهرب بدبابته المحصنة بينما هو يواجه أفرادا بأسلحة بدائية جدا، تماما كما شاهدنا ذلك في حروب إسرائيل في جنوب لبنان وغزة، وفي حرب أمريكا في فيتنام، وفي حرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، (وفي أماكن أخرى لا مجال لذكرها).

إن دفع المُسَلَّح لقتل الأعزل عمل أرعن، يقتل عقيدة القتال في الجنود، ويلطخ الشرف العسكري.

هذه القواعد تنطبق على جميع الجيوش، ويجب على كل أمة تحترم نفسها أن تحترس من مثل هذه المخاطر التي تؤدي إلى تفتت المؤسسة العسكرية، وقد تخلق انشقاقات داخلها.

العقيدة القتالية أهم مما نتخيل، وجودها وانهيارها هما السبب الأول في الانتصارات والهزائم، فهي سبب احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، فالجيش الأفغاني لم يعترض على ذلك، ورحب بالغزاة، وهي السبب أيضا في طرد هذا الجيش الجرار بعد ذلك بسنوات، على يد قوات أخرى تملك عقيدة قتالية راسخة.

العقيدة القتالية هي السبب في سحق الجيش العراقي في عام 2003، وهي السبب في صمود المقاومة العراقية بعد ذلك لسنوات طوال.

إنها السبب في استقبال بعض قادة الجيش اللبناني للجيش الإسرائيلي بالبسكويت والقهوة في عام 2006، وهي السبب كذلك في طرد إسرائيل من جنوب لبنان، وفي هزيمتها المنكرة في الحرب ذاتها.

إنها سبب هزيمة الجيش المصري المنكرة في عام 1967، وهي السبب في عبور المصريين في أكتوبر 1973 على هتافات (الله أكبر).

إن انهيار العقيدة القتالية في أي جيش هو ما يؤدي إلى انهيار أسراه في أقبية التحقيق، وهو كذلك ما يؤدي إلى سهولة تجنيد أعضائه لدولة أو تنظيم أو فكرة، ولا تستغرب حين تجد جيوشا عريقة يتم تجنيد ضباطها لتنظيمات أو دول أخرى، فالخلل في الرسالة التي يوجهها الجيش لضباطه وعساكره، فحين يحاول أحد أن يقنعك بالباطل لن تقتنع، وحين يحاول أحد أن يسلب منك شرفك العسكري، وأن يحولك من مقاتل إلى قاتل، حينها من الوارد جدا أن تخطفك عقيدة قتالية مضادة.

لا بد للجيوش أن ترفع الشعارات الصحيحة المقنعة، ولن يستطيع أي جهاز مختص بالشؤون المعنوية أن يقنع أعضاء جيشه بالقتال تحت شعارات كاذبة، وهذا سبب هزائم كثيرة، فهذا ما حدث في مصر في نكسة 1967، فبعد أن ملأ النظام الدنيا كذبا، وبعد أن كانت الناس تنتظر دخول تل أبيب والصلاة في المسجد الأقصى، وجدوا جيشهم مهزوما، وأرضهم محتلة !

العقيدة القتالية لا بد أن تكون أمرا مجمعا عليه بين أبناء الوطن، وإذا لم يحدث ذلك ستكون النتيجة أن المجندين أو الضباط غير المقتنعين بهذه العقيدة سيكونون حصان طروادة داخل المؤسسة، وفي هذه الحالة لن يكون اللوم عليهم وحدهم، بل اللوم أيضا على من قرر العبث بعقيدة جيشه القتالية بحيث أصبحت أمرا مختلفا عليه بعد أن كانت محل إجماع.

إن تغيير العقيدة القتالية للجيوش أمر شديد الخطورة، ولذلك حاولت كثير من الدول العظمى تغيير العقيدة القتالية لجيوش أعدائها، وكان ذلك بديلا عن الحرب، فحين حصل ذلك وجدنا أسلحة هذه الجيوش تتجه إلى صدور الإخوة والأصدقاء والحلفاء، وتهدم بيوت أبناء الوطن، بينما ينعم الأعداء بالسلام والاستقرار، وكل ذلك بفضل خدمات مجانية يقدمها هذا الجيش لأعدائه، وكأنها عملية إفناء ذاتي للوطن ولجيش الوطن.

إن العقيدة القتالية ليست أمرا معقدا، بل هي رسالة بسيطة، شديدة البساطة، فعقيدة الجيش الإسرائيلي مثلا تتمثل في إفناء الآخرين من أجل بقاء إسرائيل.

في يوم من الأيام كنا نعرف جيوشا كانت عقيدتها حماية الأرض والعرض من أي غازٍ معتدٍ، ولكن بفضل بعض القيادات السياسية والعسكرية غير الحكيمة تغيرت

 العقيدة القتالية لتلك الجيوش، فابتلى الله بها البلاد والعباد، وأصبحت خطرا على نفسها، وعلى أوطانها.

نسأل الله السلامة!