إعادة إعمار النفوس والعقول قبل الشروع في إعادة إعمار المدائن والحواضر

إعادة إعمار النفوس والعقول

قبل الشروع في إعادة إعمار المدائن والحواضر

م. أسامة الطنطاوي

[email protected]

إن موضوع إعادة إعمار مادمرته آلة الحرب المستعرة في كافة مناطق وطننا السليب وإعادة بناء وتأهيل البنية التحتية التي أصابها العبث والدمار وحل بها الخراب بطريقة ممنهجة من قبل النظام الذي يعتمد أسلوب التدمير الشامل لكافة المرافق الخدمية و المدنية لمناطق بعينها والتي هي خارجة عن سيطرته ووفقا لخطط و استراتيجيات طائفية بغيضة ، بالاضافة الى الدمار الذي ينتج عن تصفية حسابات عشوائية بين الفئات والجماعات المتقاتلة الأخرى....

وهذا الأمر ليس بالجديد في بلد يمر بمثل هذه النكبات و الظروف الصعبة ، على أن المقاربة هنا في كون قضية إعادة الإعمار قد سبقنا إليها العديد من الدول العربية والاسلامية التي أصيبت بظروف مشابهة مثل العراق وافغانستان ، حيث يتهافت الساسة وصناع القرار في كل منها الى التبجح والتشدق طويلا في مكانة وأهمية خارطة أولويات إعادة الإعمار لأغراض سياسية وكوسيلة للابتزاز و استنزاف الميزانيات الضخمة  باسم مشاريع ذات اسماء رنانة ولكنها جوفاء في حقيقة الأمر ويتم توظيفها لاستغلال واستغفال المواطن والتدليس عليه بأن هذه المشاريع وجدت لخدمته ولتحقيق مايصبو اليه من إعادة هيكلة وسائل العيش الكريم بينما هي في واقع الأمر قد وجدت لتلبية مصالح فئوية ضيقة .

وخير دليل على مانقول هو حال العاصمة العراقية و غيرها من المدن الهامة بعد مرور أكثر من عشر سنوات على إنشاء النظام الجديد على أنقاض النظام السابق حيث أحال الفساد الإداري أغلب المشاريع الانشائية الى مجرد حبر على ورق وقد أفرغت من مضمونها ولم يتم تنفيذ أي منشآت ذات قيمة حقيقية على أرض الواقع نتيجة سوء النية وعدم وجود إرادة حقيقية للبناء و إعادة إعمار الحواضر والأحياء المتهالكة، بحيث تجد أن العاصمة التي كانت توصف بالأجمل بين مثيلاتها على المستوى العربي والأقليمي قد أضحت وكأنها قرية نائية فقيرة خالية من أبسط أنواع الخدمات العمرانية والبيئية والصحية.....

وحيث أن لكل مشروع عدة مراحل اساسية تبدأ أولها بتحديد وتعريف المخرجات المستهدفة من القيام به ، ثم تأتي مرحلة المعطيات المفترض إدخالها ليتم انتاج و صناعة الهدف من المشروع ، ويأتي بعد ذلك مرحلة استخدام العدد والخطط والبرمجيات المناسبة لتحقيق ذلك الهدف المنشود وهذا يعتبر المحك ومقياس مدى النجاح أو الفشل.

وإن حدوث خلل في أي من المراحل الآنفة الذكر سيؤدي حتما الى الفشل في ادارة المشروع وفنائه ، وسيكتب له النسيان و التعثر ولن يبصر النور على أرض الواقع.

وأرى أن هذا الأمر يتكرر ويعاد استساخ نفس التجربة الفاشلة مرة أخرى في بلدنا ومن طرفي النظام والمعارضة على حد سواء ، حيث يتبجح النظام بأن لديه الكوادر الادارية والفنية والهندسية المؤهلة لوضع الخطط والدراسات والمشاريع المناسبة لإعادة إعمار المدن والقرى والبنية التحتية المدمرة على نفس النمط البيروقراطي الذي تخطاه الزمن منذ سنوات طويلة ولم يعد مناسبا لمواكبة تقنيات العصر الحديث وأساليب وطرق الأنشاء والتعمير المتطورة ، هذا بالإضافة إلى الفساد المقنن الذي هو من صلب النظام القائم وديمومته......

وأما من طرف المعارضة المتشرذمة فإن الطرح الذي تتبناه غير قابل حتى للنظر اليه بجدية ، حيث تتقاسم مع النظام و تتشابه في نواح عدة منها من الاعتماد على نفس المنهجية والمرجعية المتداعية و التي درجت على ممارستها منذ عقود ، ولاتملك تقديم أي بديل ناضج يمكن أن يحل مكان المرجعية القديمة ، وبالتالي فان مشروع المعارضة يفتقر الى مقومات النجاح وأسسه ، وتنخر فيهم أعراض الفساد المتأصلة في نفوس معظم القائمين عليه كونهم ممن نشاؤا و ترعرعوا في أكناف النظام الشمولي وبالتالي فان أفكارهم و مشاريعهم ذات الطبيعة الهلامية والغارقة في العموميات الى حد الميوعة ، والتي ليس لها تشكيل محدد وسقف زمني ومخرجات واضحة المعالم ستبوء بالفشل حتما بحكم المنطق وطبيعة الأشياء.

ومن هنا فإن الأولوية من وجهة النظر الواقعية أن يتم الاهتمام بإعادة إعمار وصياغة العقول والنفوس المثخنة بالأفكار و الممارسات الاقصائية البالية في المقام الأول و تشذيبها وتطهيرها من الترسبات الفاسدة للمفاهيم و المبادئ البائدة ومن ثم نبدأ بالحديث عن الشروع في القيام بمشاريع إعادة العمران للمدن والمنشآت على أسس صحيحة و بتطبيق مبدأ الشفافية والبعد عن المحسوبية و الشللية والمصالح الشخصية الجشعة ، و الاعتماد على الكفاءات الفنية المؤهلة لقيادة البناء و التطوير، وهذا الأمر قد يحتاج إلى أجيال متعاقبة لنشر الوعي وثقافة التغيير الايجابية والشفافية واحترام الرأي الآخر، فهل نحن جاهزون لذلك ؟