قراءة في تهديدات القاعدة لنصارى مصر

محمد جلال القصاص

[email protected]

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ، ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:ـ

التعدي على المدنين مناقضة للشرع والعقل

للشرع

الأصل أننا دعاة إلى الله، نُعرِّف الناس بربهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ويأتي الجهاد وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله.. يأتي لمهمة محددة وهي إزالة العقبات من طريق الداعين إلى الله، يأتي لإزاحة الملأ الذين يأفكون الناس عن الحق،يأتي لاستئصال الملأ الذين عرفوا وعاندوا واستكبروا ، ويأتي الجهاد ـ أيضاًـ لرد العدو الصائل، فإن صال عدونا بأرضنا وجب علينا دفعه، ولا شروط، ولا عذر لقعود.

ومن يتتبع غزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدرك أن الأبرز فيها هو الدعوة إلى الله .. هو الحرص على هداية الناس وليس قتلهم وأخذ أموالهم ونسائهم. كل السيرة شاهد على ذلك: ثمامة بن آثال، وبنوا المصطلق، وطيء، وقريش يوم بدر حين لم يقتل أسراهم ويوم الفتح حين منَّ عليهم بعد أن مكنه الله منهم، وهوازن بعد حنين حين منَّ عليهم برد نسائهم وأطفالهم بعد أن خرجوا له وقاتلوه.
ولم يكن القتل العمد إلا لقلة قليلة جداً تعد على أصابع اليد، ككعب بن الأشرف،وابن أبي الحقيق ومَن أهدر دمه يوم الفتح، وكانت العلة في تعمد قتلهم شهرتهم بالحرب وتقليب الناس، وكان قتلهم رحمةً بقومهم قبل غيرهم إذ كان في قتلهم دفع لشرٍ كبيرٍ يطال قومهم لو بقى هؤلاء أحياء بين أظهرهم.

إن دعوة الناس إلى الله وتعريفهم بربهم سبحانه وتعالى وعز وجل هي الرسالة التي حملها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حربه وسلمه. فمع الفقر والشدة والحاجة للمال عفى عن ثمامة بن أثال ، وهو ذو مال ، وعفا عن بني المصطلق وطيء ورد لهوازن أموالهم .

وللعقل

إن من يتدبر في حال المجتمعات يعلم أن الناس تبع لمن يترأس فيهم، فإنْ قُتل الملأ دخل الناس في دين الغالب كرهاً أو طوعاً، فالناس تبع لمن يترأس فيهم ،ولذا دخل الناس في دين الله أفواجاً بعد الفتح، وخرجوا منه أفواجاً يوم الردة حين قامت رؤوس ضلالة فيهم. وإن قَدَّم الغالب حسن خلق كما فعل أجدادنا الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ تبعهم الناس .

فمن يتدبر حال الناس لا يحمل في صدره من عوام الكفار ، ولا يدفعهم إلا حين يخرجون له مع "الملأ" بسلاحهم، ثم يرفق بهم ليهديهم إلى صراط الله المستقيم فنحن عليه دعاة إليه.

و"القاعدة" في وادٍ آخر، تصر على معاملة الناس سواءً بسواء، ولذا طال قتالهم ، تصر "القاعدة" على المساواة بين "الملأ" وأتباعهم ، في حربٍ لا يصطفون فيها بجوار بعضهم . فقوم يحملون السلاح، وقوم في طلب أرزاقهم "وعبادة ربهم".
 فلا أدري لم يستهدف هؤلاء؟! .
ومن سلفهم ؟؟
حماس حين اقتحمت المسجد ؟!
أم النصارى حين اقتحموا المساجد ؟!

القدوة برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس بهؤلاء أو هؤلاء .

أين الخلل ؟

الخلل في من يفتي القوم ، أو في الصورة الذهنية الخاطئة التي رسمها لهم من يفتيهم . يحسب نفسه صاحب دولة وسلطان يخضع له الناس، فيطالب عوام الكفرة بالتبرأ مما يفعله أسيادهم .
 وهذا منطق عجيب .

على صاحبه أن يخرج من هذا المنحدر الذي يقبع فيه وينظر للمشهد بنظرة أشمل .

ليعلم حجمه في الحدث وأنه أقل من أن تطيعه عوام الناس؛ ويعلم أنه يطالب الناس بما لم يفعله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا صحابته من بعده. فمن قال أن على عوام الناس أن تطيع المغلوب وهي تحت سلطان الغالب، أن تخاف "مليشيات" وهي تحت سلطان دول تقول وتفعل؟!

وأشد من هذا نكارة هذه الحالة الكاذبة التي تسيطر على المفتين لأهل الجهاد ، إذ في حسهم أن لم يخالفهم إلا علماء السلاطين!!.
 ويصدقون هذا !!

ونعرف أن لا أحد يقرهم على قتل مدنيين من الكفار والمسلمين لا من علماء السلاطين ولا من غير علماء السلاطين، وإنما : كذب أحاط بهم فأغشى أبصارهم.

يذكرني هذا المنطق بمنطق جماعات التكفير التي تخال نفسها وحدها في المشهد فتظن أنها "جماعة المسلمين"، وبالتالي تطالب الناس بأن يدخلوا في دينها، ومن لم يخرج من دينه ويدخل في دينهم فهو كافر أو مرتد ، وكأنهم المسلمون في مكة . إيمان جديد بين كفر أصيل ..كأن الكفر أصل وإيمانهم طارئ عليه وعلى الجميع أن يجيبوا!!

خلل في التصور، أدى إلى خللٍ في معالجة الناس فنفروا ، وطال الطريق على أهل الحق بهؤلاء وغيرهم.

هل يرجع متطرفو الكنيسة المصرية ؟

روس الكنيسة وعلى رأسهم شنودة الثالث يتحركون بعقلية المقاتلين،وفي تصريحات بيشاوي الأخيرة شاهد على هذا، ولا أقول هذا تخويفاً، بل كما قال الله (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) ( إن الباطل كان زهوقاً) ( بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غروراً) ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) ، وقد خرج هؤلاء في سياق متماسك وممتد عبر عقود من الزمن، فنحن نواجه جيل إعداد، ونواجه جيلاً مثقفاً ثقافة مضادة تماماً لما ندعوهم إليه، ونواجه جيلاً أُعِدَّ للتضحية ويضحي بالفعل، وهذه الحالة لا يصلح ابتداؤها بالصدام المسلح لأمور :

منها: لأننا لم نؤمر بهذا بداية، فقد أمرنا بتقديم البيان للناس، وتبصرة العوام،حتى يهلك من هلك عن بينة ويحى من حي عن بينة، ويعرف الناس إلم يدعون ؟!

ثم يأتي الجهاد مرحلة متأخرة بعد البيان للناس ، يأتي لأهداف محددة كما مر.

ومنها: أن هذه الحالة قامت على معلومات مغلوطة عن الإسلام، وتصحيح مثل هذه المعلومات يثمر خروجاً من الكفر ودخولاً في الإسلام ونشاهد الآن في كل شهر مئات يدخلون في دين الله أفواجاً،علماً بأنه لا يسلم الآن إلا ذي بأس أو من هانت عليه نفسه في سبيل مرضاة ربه، والعقل يقول أن نفراً يسلم ومئة يكتمون إيمانهم، أو يقدمون حين يذهب الملأ عنهم.

ومنها : قوة شنودة خارجية وليست داخلية، بمعنى أنه يعتمد في الأصل على غيره، الدولة والدول الخارجية، وقوة الخارج تتداعى، وقوة الداخل مؤقتة، فالمتابع للحراك الكنيسي يعلم أن الكنيسة تتعامل بغباء مع القوى المساندة، فهي مستوثقة من بعضهم ومستعدية لبعضهم، وهؤلاء المساندين غداً أو بعد غد يذهبون إن شاء الله ويأتي من استعدتهم الكنيسة، وإن كانت تمد حبالاً في السر مع القوى القادمة كما تفعل يهود، أو مستعدون لاسترضاء مَن سيأتي بما شاء، فهذه أمارة على أنهم سبقون أتباع ولا سبيل لتمكنهم بل لتبعيتهم المطلقة ويكون العراك ـ في هذا الصورة ـ مع المنافقين لا مع الكافرين.

ومنها: أن ذبح نصارى العراق جميعاً لا يحرك ساكناً عند أقباط مصر ، ذلك أن هؤلاء من ملة وأولئك من ملة أخرى، ونصارى مصر غلاظ لا يحبون غيرهم ولا يحبهم غيرهم.ولا يعتقدون بإيمان غيرهم وغيرهم لا يعتقد إيمانهم. فلا يمثل خطف غير منتمي لكنيسة نظير جيد شيئاً عنده، إلا أن ينال الخطفُ قوماً ذوي قيمة يضغط قومهم على نظير جيد ، وهذا لا يتحقق في في فلاحين العراق وقد بان بالتجربة أن قومهم أقدموا على قتلهم ولم يفكروا فقط ـ مجرد تفكيرـ في تلبية طلبات مَن خطفهم.

استدعاء القاعدة لمصر:

القاعدة كانت كذبة ، أو شيئاً قليلاً جداً فنفخت فيه قناة الجزيرة بغير قليلٍ من الخبث ليبدو وكأنه جبهة تهدد أمن الغرب كله، وبالقاعدة تم إعطاء مصوغ للغرب ليجتاح بلاد المسلمين بجنوده ومفكريه من الكافرين والمنافقين .
والملاحظ في "القاعدة" أنه فكر لحق به آخرون، وليس انتشار موجه من عدد من الناس، فمن يجاهد الأمريكان في العراق انضم للقاعدة وصار جزءاً منها، وكذا من يقاتل بالمغرب واليمن، لا أحسب أنه جاء من جبال الأفغان ودخل اليمن مقاتلاً وإنما جاء الانضمام للقاعدة لاحقاً. وهذا يعني أنه فكر ينضم إليه من يوافق هذا الفكر هواه.

وظاهرة النقمة على المجتمع والرغبة في تغيره أو الخروج عليه لا يخلو منها مجتمع ، فقط تشتد وتضعف بوجود عوامل أخرى، اجتماعية أو سياسية، ومصر مهيئة الآن لأن تنبت "القاعدة" بداخلها لأمور منها:

منها : أن الحركة المعادية لمتطرفي الكنيسةشنودة كلها شبابية . وهذا معطى مهم جداً فعامة جنود القاعدة شباب ممن لا يعرفون حلاً وسطاً.

ومنها: أن متطرفو الكنيسة يستفزون هؤلاء الشباب بأعز شيء وهو التعدي على العرض ؛ والصدور تغلي .

ومنها: الدولة لا تعمل على تلجيم متطرفي الكنيسة بل تطاول لهم الحبل ليسرحوا حيث شاءوا.معلماً بأن متطرفي النصارى هم الحلقة الأضعف، ويمكن أن نتقي شرهم بتفعيل الخلاف الداخلي بينهم وهذا سهل ميسور لذي سلطان .

ومنها: أن الكنيسة مدججة بالسلاح، وسلاح الكنيسة سلاح عصابات .. يصلح للبلطجة وقلة الأدب، أو لتقتيل المدنيين بعد دخول العدو كما حصل في العراق، ومتطرفو النصارى أغبياء لا يفهمون. لا يفهمون أن من أغراهم بجمع السلاح في الأديرة والكنائس مغروس في العراق والأفغان والصومال وفلسطين لم يعد له أمل في القدوم إلى مصر أو حتى نجدة أسياده في فلسطين، ولم تعد به قوة لإنفاذ الوعد فعلى هؤلاء أن يسلموا سلاحهم ويرجعوا لما كانوا عليه ، ولكن المتطرفون في كل زمان ومكان أغبياء ربما يقدمون على استعمال السلاح فتنبت "القاعدة" في مصر.

فلا يستطيع متطرفو النصارى الآن قتال شعب مصر لقيام دولة أو للاستيلاء على الدولة، فهم مهزومون تتفلت منهم جموعهم، والإصرار على تمادي المتطرفين منهم وسكوت الدولة أو تواطؤها معهم نذير شرٍ للجميع، وتصريح لبدء القتال في مصر، وهذه المرة لن تكون كسابقاتها فحرب بين طائفتين غير حرب داخلية.

خالف الشرع والعقل من تعدى على الكنيسة في العراق، وخالف العقل والشرع والمروءة من كف يده عن متطرفي النصارى في مصر، وخالف متطرفو النصارى في مصر العقل حين غرتهم غفلة المسلمين وحسبوا أن القلة تستطيع أن تحكم الأكثرية.