التكنولوجيا في خدمة الخرافة

سري سمور/ جنين ـ فلسطين المحتلة

[email protected]

[email protected]

اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، سُبحانك اللهم وبحمدك، رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين... إنه الشيطان يتسلل من مسامات دقيقة ليُزيّن للمرء الخطأ، بل ليُلبسه ثوباً يبدو فيه صواباً وحقاً!

(1)

رغم قناعتي بأن توقعات الأبراج، أو ما يُسمى بالأبراج، مجرد كلام فارغ وسخيف، وبتعبير إخوتنا المصريين «هجايص» فقد دخل الشيطان من مدخل آخر هو أن الصفات العامة لكل برج من الأبراج تخضع لدراسة علمية وأن حركة الأفلاك والكواكب لها تأثيرها على سلوك الإنسان وطباعه!

وعليه رُحت أقرأ كل ما يقع تحت يدي من كتب ومقالات أو نشرات؛ فمواليد هذا البرج يغلب عليهم الحلم، ومواليد ذاك البرج يغلب عليهم البخل، وهكذا حتى ترسخت لديَّ قناعة بأن الكلام المكتوب ليس تنجيماً، أو "هجايص" بل بناءً على دراسة لمواليد كل برج عبر قرون طويلة... الله أكبر، ربما يكون هذا صحيحاً ولكن ماذا يعني هذا؟!

امرأة لبنانية هي «م.ف» لا أدري كم تجمع من الأرباح في كل عام تنشر كتاباً عما تقوله الأفلاك والأبراج والنجوم....إلخ لمواليدها، ابتعت الكتاب في بداية سنة 2002م، مثل كثيرين غيري، وكان الكتاب يتحدث عن مواليد برجي بأن أفضل شهر لديهم، بل الشهر الذي ستتحقق فيه آمالهم وطموحاتهم في العام المذكور هو شهر نيسان/أبريل(4)، فكان أن اقتحم جيش الاحتلال الصهيوني مخيم جنين وأحدث في منزلنا دماراً كبيراً وعشنا مسلسلاً من الرعب والخوف، وتفرق شمل الأسرة لأيام طوال، واحتجزنا جيش الاحتلال الصهيوني في ظروف صعبة للغاية، فهل هذا ما كانت تقصده السيدة المحترمة في توقعاتها؟!

(2)

ظلَّ التساؤل قائماً عن صفات مواليد كل برج في ذهني وذهن غيري، حتى جاء يوم، وبالصدفة كنت أُتابع قناة "المنار" الفضائية التي استضافت الشيخ «محمد حسين ترحيني»، والحق أن الشيخ نسف أفكار من يُسمون بالفلكيين والمنجمين بأسلوبهم وأدواتهم، ولم يكتفِ بالكلام العام بأن هذه خرافات ويحرم على المسلم التعامل بها، بل ناقشها نقاشاً علمياً، وجاء بأمر مهم وهو: أن العلم الحديث في ظل تطور الرصد الفلكي والمناظير والأقمار الصناعيـة يدحض فكرة كون أي إنسـان من البرج الذي اعتاد أن يُنسـب إليـه كما هو موجود بالكتب والجرائد والمجلات، ولقد سأل مقدم البرنامج الشيخ عن مسألة صفات مواليد الأبراج ويبدو أنه ابتاع الكتاب إياه، فقال ما معناه: أنا من مواليد برج الجوزاء وحين أقرأ في الكتاب أجد فعلاً أن الصفات الخاصة بمواليد هذا البرج تنطبق عليَّ!

الشيخ "ترحيني" جزاه الله خيراً أجاب عن هذه النقطة بأن الكلام عام وينطبق على معظم الناس، فمثلاً يقول لك أنت إنسان هادئ إلا حين يستفزك أحد... كل الناس هكذا... ولقد أوضح الشيخ أن هؤلاء الناس أذكياء ولا يعتمدون على الشعوذة والتنجيم والرجم بالغيب فقط، بل يدرسون ويُتابعون ويستخدمون الاستنتاج العلمي في جزء مما يتوقعون وأنهم يلجأون إلى إصباغ الغموض حمّال الأوجه لما يقولون، فمثلاً يقولون لك: أمامك ثلاث إشارات، وهذا كلام حين يسمعه المرء وهو مقتنع به سيُفسر أي حدث وفق ذلك، فمثلاً يمرض أو يُسافر أو تضع زوجته مولودا أو أو... فكلامهم مصبوغ بالغموض وبمعلومات عامة لا تُخطئ مع أي إنسان في سبيل التصديق على أي حال.

(3)

لم يعد الأمر مقتصراً على الجرائد التي بمعظمها تضع زاوية لهذا الموضوع، أو بعض البرامج التلفزيونية، أو البرنامج الشهير في إذاعة الكيان الصهيوني ومقدمه «إ.ح» والذي كان له كثير من المتابعين والمتصلين، فمع انتشار الفضائيات و(الإنترنت) أصبح هذا الباب مفتوحاً على مصراعيه، كان هناك فضائيات متفرغة تماماً لهذه «الهجايص» أو برامج خاصة تعرضها بعض الفضائيات العربية للمهووسين بهذه الأمور، وللفضوليين، من أمثالي، بلا فخر، ولمن يحبون «الاستئناس» بما يُتحفنا به هؤلاء الذين أصبحوا يحملون ألقاباً... بسم الله ما شاء الله؛ من أمثال فلكي، خبير بعلم الفلك والنجوم، والله إن لنا من بلادنا علماء وخبراء في وكالة (ناسا) لا نعلم أسماءهم ونجهلهم مذ هاجروا أو قبل هجرتهم، فيما نعلم أسماء وسيرة من يزعمون معرفتهم بالأبراج والفلك، ربنا اغفر لنا جهلنا!

هل تذكرون صاحب الكرة البلورية، الذي كان يطلب من المتصل أو من يرغب بالاستفادة من خبراته التنجيمية عالية الجودة بأن يُصور كف يده بماكينة التصوير، إلهي اغفر وارحم، ماكينة التصوير أسهل ومنتشرة، أنصح حالياً باستخدام الماسح الضوئي(سكانر) وكان يضع عنواناً لإرسال صورة الكف مع شيك بمبلغ معين...!

وهناك لمن يريد رسائل قصيرة (مسجات) عبر الهواتف النقالة تُخبرك بما تحمله لك النجوم، و(الإنترنت) يوفر عليك شراء الصحف والمجلات والكتب، ورغم إغلاق الفضائيات واضحة اللون «الشعوذي الهجايصي» فإن للكثير من الفضائيات برامج خاصة بذلك، وهي تتسابق على استضافة الفلكي الألمعي فلان الفلاني، الذي يأخذ بآرائه الساسة الكبار والذي توقع كذا أو كذا «وصدقت توقعاته»... الله أكبر... الله أكبر، مزيداً من الفلكيين لأننا بحاجة لهم؛ في سبيل النهضة وتحرير الأوطان!

التقنيـة الحديثـة تحوّلت إلى وسـيلـة لتعميم الخرافـة ونشـر الدجل، بدل أن تكون في خدمـة نشـر العلم النافع وتعميم الثقافـة المفيدة، وإخراج الناس من ضيق تأثير "المخدرات الفكريـة" إلى رحابـة العلوم والمعارف وبناء الإنسـان العملي، بدل الإنسـان المخدَّر الغارق في الخزعبلات والشـعوذة.

(4)

أعلم أن الأمر ليس مقتصراً على شعب دون شعب وأمة دون أخرى، ولكن نحن أولى بترك الخرافات من غيرنا، ولطالما رددنا: "كذب المنجمون ولو صدفوا" ـ بالفاء وليس بالقاف ـ ولأن من أسباب تدهور حالنا هو الغرق في هذه التُرّهات، ولقد نشرت بعض الصحف عن مليارات تُنفق سنوياً على هذه الأمور في بلاد العرب!

قرأت مرة بأنه يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية نحو مليون شخص يمتهنون «التبصير» أو العرافة والكهانة كما في الأدبيات الإسلامية، ومؤخراً استخدم أوروبيون أخطبوطاً للتنجيم عن نتائج المباريات؛ ولكن تلك البلاد وغيرها لا تبني حياتها واستراتيجياتها على هؤلاء وأتباعهم، فلديها مختبرات علمية متطورة ومراصد فلكية ومحطات فضائية ومسبارات لاستكشاف الكواكب الأخرى، وهي تجذب وتستقطب العلماء من بلاد أخرى بما فيها البلدان العربية التي لم توفر لهم العيش الكريم أو أدوات وإمكانيات العمل والعلم النافع، بل فضَّلت عليهم أصحاب الخرافات، على الأقل من باب إشهارهم وإبرازهم إعلامياً، بل حتى الهند التي لها تاريخ في التعمق بالأمور الخرافية والشعوذة، أنتجت مؤخراً جهاز«آي باد» يُباع بأربعين دولاراً فقط، ولم يبقَ إلا نحن على قارعة طريق التقدم التقني، والذي ما إن استوردناه حتى جعلناه في خدمة الخرافة وتعميم الدجل وتسويقه للجمهور المنكود!

وأنا أتنقل بين مواقع إلكترونية على الشبكة العنكبوتية يُطالعني خبر يحظى بالاهتمام عن فلكي مغربي، كان قبل سنوات شخص تونسي اسمه "حسن الشارني"، يتوقع كذا وكذا لولا التكنولوجيا لما سمعنا بهذا، هذه نعمة كبيرة، فمن خلال (الإنترنت) يمكن أن تطلع على ما أتى به العلامة «ع.خ»؛ فقد أتى بما لم تأتِ به الأوائل، يا جماعة هل نسيتم توقعه لأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر؟ خير اللهم اجعله خير، اللهم احمِ عقولنا كي نحمي بها ديارنا التي ضاعت وتضيع تباعاً.

أنا لا أتهم أحداً، ولكن لمَ لا نفكر بالطريقة التالية:ـ

أولا: الحركة الماسونية وأجهزة المخابرات الدولية الكبيرة تدرس الشعوب والأمم وخاصة في منطقتنا، وتعلم كيف نفكر وبمَ نحلم ولها مخططات تريد تمريرها، فلمَ نستبعد أنها تُسربها لنا بهذه الطريقة، أي تقوم بعملية تهيئة نفسية لأحداث تنوي افتعالها، أليس هذا الاحتمال قائماً ولو بنسبة واحد في الألف، لمَ لا نضعه في الحُسبان؟

ثانياً: كما قلتُ في البداية، هؤلاء الناس يدرسون ويستخدمون وسائل الاستنتاج العلمية المعروفة، وحتى (نوستراداموس) الفلكي الفرنسي الذي ذاع صيته في القرن السادس عشر الميلادي كان طبيباً عالج مرض الطاعون ودرس الرياضيات في شبابه.

فلم يعد هؤلاء بصورتهم النمطية القديمة من ارتداء ألبسة خليط من عصور وثقافات وألوان مختلفة، والجلوس في غرف خافتة الضوء، وإشعال البخور وإبداء حركات غريبة وعبارات غامضة... لا لا اليوم غيروا هذا «الكاريكتور» فأصبحوا يلبسون ملابس «شيك» ويتحدثون كأنهم علماء وخبراء ويتفاخرون بشهاداتهم الجامعية وتفوقهم الدراسي، ولمَ لا؟ فهناك عقول ونفوس جاهزة للتصديق ولا تُفرق بين ما يطرحونه من علم درسوه أو خزعبلات يُسوقونها، وتقبل ما يُلقى لها من غثٍ أو سمين، لا يهم المهم أن يروي بها شيئا ما في النفوس.

في فيلم، لا أتذكر اسمه، قام ببطولته الفنان الراحل أحمد زكي الذي كان يعمل مدرساً فوجد نفسه وقد انجر ليُصبح من ممتهني الشعوذة وجمع ثروة هائلة، وأصبح من محظيي رجال السياسة، فلما تعب توجه إلى الشرطة للاعتراف بأنه دجال وكذاب و«كله في الهجايص»، فلم يُصدقه الضابط بل قال بأنه من أكثر متابعيه، وأنه يثق به لأنه يحمل شهادة دكتوراة، ولا حول ولا قوة إلا بالله... فضائيات ومواقع (انترنت) تستنفر وتُتابع الفلكي الألمعي، بحجة أن تسعين بالمئة من توقعاته أصابت سابقاً... يا ناس ارحموا أنفسكم! ما الجديد بأن غزة قد تُحتل وأن الضفة الغربية مهددة؟ ألم يُهدد قادة الاحتلال الصهيوني غزة، ويعيث المستوطنون فساداً في الضفة؟ ما الجديد في اضطرابات وفتن وحروب هنا وهناك فتيلها مشتعل أصلاً!؟

ثم حين يتكلم عن احتمالات وفاة فنان أو فنانة من بلد معين ونحن نعلم أن في هذا البلد فناناً مشهوراً قد بلغ من الكِبر عتيّا، ما المثير بالله عليكم؟!

طبعاً قد يأتيك بتوقعات مثيرة، عن فيضانات وزلازل في بلدان غير معتادة عليها أو تفجير ضخم يوقع عدداً كبيراً من الضحايا في مدينة معينة، فإن صدف وحصلت يزداد الناس ـ بعضهم بالتأكيد ـ ثقة به، وإن لم تحصل ينظرون لتوقعاته الأخرى الظاهرة إرهاصاتها أصلاً ويقولون: لقد كان محقاً... يا قوم شيء من العقل والحكمة رأفة بأنفسكم وبدياركم وأبنائكم...!

اللافت للنظر أن التوقعات أتت مبكراً لأن موعدها في الغالب في نهاية كانون أول/ديسمبر في كل عام، ويبدو أن ثمة سباق على التنجيم، فالسوق مزدحم، لأنها تجارة مربحة على ما يبدو!

لو استمع الخليفة المعتصم بن هارون الرشيد للمنجمين لما كان له هذا المجد الذي لأجله لا زال اسمه يُطلق على كثير من المواليد الذكور؛ فقد جهز الجيش وغزا عمورية وفتحها ضارباً بالمنجمين والفلكيين ورأيهم عرض الحائط، وقد عبَّر الشاعر العربي حبيب بن أوس الطائي الشهير بأبي تمام عن تلك الحادثة بقصيدته المعروفة التي جاء فيها ما يسخر من المنجمين:

السيف أصدق إنباء من الكتب  ***  في حده الحد بين الجد واللعب

أين الرواية بل أين النجوم وما ***  صاغوه من زخرف فيها ومن كذب

تخريصاً وأحاديث ملفقة    ***    ليست بنبع إذا عدت ولا غرب

نعم زُخرف وكذب وتخريص وتلفيق لا يستحق أن يفرد له خبر على أي موقع إلكتروني رصين، حتى لو كان هذا يجلب جيوشاً من المتصفحين.... وما أحوجنا هذه الأيام لأمثال المعتصم وأبي تمام.

وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.