أيَّ دولة نريد

ردا على مقال سيد القمني* المنشور في مجلة روز اليوسف،

بعنوان "حتى لا يخدعنا بعضهم: هل كان تاريخنا ماضيا سعيد؟"

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

يدفعنا الواقع الذي نعيش حمأته المخيفة إلى التفكير جديا بأمر الدول وبنائها وطبيعتها، ولذا ترى أن ما نغوص فيه من أوحال التخلف والجهل والتبعية السياسية والثقافية حافزا قويا في السيطرة الذهنية على قضايا السياسة، ودافعا محرضا من أجل الوصول إلى صيغة فكرية مقنعة للعقل وواقعية؛ قابلة للتطبيق بعيدا عن الشعارات الزائفة والتنظير الميت.

وقد شهدنا في الفترة الأخيرة في كثير من المنابر الإعلامية نقاشا حادا ومحموما في أمر الدولة القائمة، والفشل الذريع الذي يلف تلك الأنظمة على شتى توصيفاتها العقيمة من رأسمالية أو اشتراكية، وحتى إسلامية؛ إذ لم تفلح تلكم الأنظمة في رد الاعتبار العربي والكرامة العربية المدعاة، والتي هدرت في كل سبيل وفي كل موسم، ومن كل أحد، وكأننا أصبحنا كشعوب عربية صفرا في معادلة الحضارة الحديثة، لا أحد يكيل في صاعنا، ولا أحد يرانا أهلا لبارقة أمل تجود ببعض نور، وأشاعت فينا شعورا بالعدمية والعبث، واحتقار الذات، والتطلع صوب الغرب، واستنشاق عبيره من التقدم المادي المبهر.

إن الكل يبصر بأم عينيه، ويدرك بلب عقله وبصيرته أننا نعيش أزمة سياسية وثقافية وحضارية مفزعة، وتسيل الأقلام مسطرة في ذلك أبدع الاستعارات، وأوفى التوصيفات، ولكنها بالمقابل تعجز عن حل، لأن تلك الأقلام لا ترى في المسألة إلا بعدها السياسي المجرد عن الفكر المؤسس لنهضة حقيقية، تبدأ من الفرد وتنتهي بالمجتمع، تهتم بكل الجوانب؛ فتنبني صرحا فكريا متماسكا، يكون نتاجه الطبيعي دولة مبدئية، فكرية وسياسية، مبنية على أسس متينة تنويرية، دافعة إلى الأمام، دولة علمية، ودولة حق وقانون، ودولة رعاية شؤون، لا دولة نعوش أو عروش أو قروش، لا يعنيها العهر السياسي لتوصيفه، بل إنها تسعى جاهدة لتحطيم أركانه، وإنشاء بدلا منه فضاء سياسيا رحبا، مفتوحا على آفاق الكون، تنظر إلى البشرية بوصفها وحدة متصلة المشاعر، تعاني من شقاء الواقع وبلاءاته المتنوعة.

دولة، ليست قائمة على مصالح حفنة من أصحاب رؤوس الأموال، أشقت البلاد والعباد، وأوهمتهم أنهم يحكمون أنفسهم بأفضل ديمقراطية وأحسن برلمان، ضحكت على الذقون ببعض الألاعيب التي باتت مكشوفة ومفضوحة، لا تنطلي على أقلية أو أكثرية، فغدا الصغير والكبير والرجل والمرأة سنا في دولاب لا يرحم أحدا، ولا يفكر في الرحمة أحد.

إنها ليست الدولة التي تقضي يوميا على آمال الناس وأحلامهم، فأحرقت الزرع والنسل، وأبدلت بالخضرة المترامية الأطراف حرائق مجنونة تلتهم المساحات الشاسعة في طرفة عين، ولولا رحمة ربك لكانوا من الهالكين، إنها بالتأكيد، ليست الدولة التي التهمت سياسات التصنيع فيها الأخضر واليابس، وأشاعت الرعب في المكونات الطبيعية حتى فرضت على النظام الكوني تغييرا ليس بالهين، فدفعت الجميع إلى الهاوية، فأضحى لا يعني سياسيّها إلا أن يسخروا هذا البلاء الكوني العام لمصلحتهم، ليزدادوا إثما بثراء، وتزداد الملايين تشردا وموتا تحت ظلال الأعاصير الهوجاء والفيضانات العمياء.

إنها دولة قائمة على أساس تطبيق النظام على جميع الناس بالتساوي والعدل والرحمة، لا تقوم على اجتهادات حاكم دكتاتور، يحكم بأمر هواه، أو بادعاء كاذب أنه هو الإله، دولة رجال بناهم الفكر القويم، وغذتهم النفس المستقيمة، بما لديها من فيض مشاعر إنسانية مهتمة بكل ما هو إنساني، يعنيها الشجر والحجر بقدر ما تعنيها جماعات البشر،  لا تفرق بين عناصر المكونات في هذا الكون المترامي الأطراف، بل أنها تنظر فتراه وحدة متصلة الأجزاء؛ لا يؤدى وظائفه إلا بالتناغم التام بين كل أجزائه وصلاحها شرط أساسي لأداء تلك الوظائف.

إنها الدولة التي لا تعنيها أحداث التاريخ بكل ما فيه من مآس، أشقت الناس حينا من الدهر، ولا تؤسس للواقع من منظور التاريخ الأسود، وبيارق الموت الأحمر، فذاكم التاريخ لا تلفت إليه ولا تريد إرجاع الناس حتما إلى القرون الوسطى وظلاميتها المعروفة شرقا وغربا، ولا تريد حربا مفتوحة بلا رحمة على الناس، كما يدعي أقزام الفكر من الناعقين الضالين المضلين.

إنها الدولة التي تريد أن تنهض لتمسح آلام من تجرعوا ضربات المحتلين الوالغين في الدماء في كل بقاع (المهجورة)، على أيدي المستعمرين الشرهين، فشواهدهم هناك حيث أمريكا اللاتينية ومصائب العبيد وتجارتهم، التي ما انتهت ولن تنتهي، وجرائمهم صارخة هناك حيث أمريكا الشمالية، بلد النور والبخور، حيث الهنود الحمر الذين أبيدوا، وجردوا من أرضهم، وحرموا خيراتها، ليقتاتوا البرد والصقيع، فلم يعودوا يرون للشمس حرارة في بلاد الحضارة!

إنها الدولة التي لا تريد أن تجرب في البشرية ومدنها أسلحة الدمار الشامل، فلن تعيد، ولن تفكر مجرد تفكير في إفناء الناس؛ لأن مهمة تلك الدولة إنسانية خالدة، فهي حتما لا تريد أن تضرب الناس بالفسفور الأبيض، ولا أن تستنسخ هيروشيما وناجازاكي، ولا تطمع ولا يمر بخاطر عظمائها أن يسلبوا أرضا من سكانها، أو يقتلوا طفلا أو امرأة أو شيخا، ولا تسمح لجنودها بتدنيس مقدسات الناس بالكلاب اللاهثة، والأفعال الخسيسة الشائنة، وتحويلها بارات ومواخير عهر وسكر وعربدة.

إنها الدولة الفكرية التي تحفظ البشرية من كل سوء جنته أيدي حكام، لم يراعوا يوما أمانة المسؤولية فخانوها وخانوا أنفسهم، فكانوا لشعوبهم ضغثا على إبّالة، ولم يؤدوا لها حقا، إنها الدولة التي ترفض رفضا قاطعا أن تكون بوليسية أو جاسوسية أو مخابراتية، فلا تسعى لتجنيد الأخ مندوبا وقحا ليترصد أخاه ويتتبع عورته، ليشي به، فيوقعه في حبال المشانق، ليعلق على أبواب المدن مصلوبا أو مشنوقا، إنها الدولة، التي لا تريد لرعاياها الفرار إلى العواصم الغربية حفاظا على دينهم وصونا لأفكارهم وتمسكا بعقائدهم ومبادئهم، لأنهم فقط خالفوها ببعض رأي أو توجه.

إنها دولة تحارب السجون والأقبية المغلقة والمياه الملوثة المدلوقة على أجساد السياسيين والمثقفين، ولا ترضى بأساليب التعذيب المتعددة من كل فن وفن؛ فلا تستعمل الإيهام بالغرق، ولا تقلع الأظافر، ولا تلجأ لنتف اللحى، ولا تقبل بحشو الرأس في أكياس مع الفئران والقطط، إنها لا تقبل أن تكون سادية منحرفة النفس شاذة؛ تتلذذ بالتعذيب وتطرب لأنات المقهورين.

إنها الدولة التي تبغي إشاعة الحب والألفة والتآخي والنصرة تقوية للجبهة الداخلية، لتبني مجتمعا سياسيا قويا، إنها دولة الحوار الفكري المبني على الحجج والبراهين، ولكنها كذلك دولة تحارب، وبكل ما أوتيت من منطق العقل والتفكير والسياسة الفاحصة، كل ما يودي بالمجتمع إلى المهالك وصعب المسالك، ومع ذلك لا تعاقب كالحجاج بالظنة، ولا تأخذ أحد بذنب من دون بينة.

إنها دولة الحسم والحزم والقوة، فما تتبناه من فكر هو ما يمنعها من ارتكاب كل تلك الجرائم السياسية، وليس بضغط هيئة أمم أو صندوق نقد دولي أو مؤسسات المجتمع المدني أو المؤسسات الحقوقية، التي ساهمت وبكل جدارة بضياع الحقوق، إنها سيدة نفسها، تتمتع بالسيادة الكاملة على كامل التراب الوطني، وسيادتها غير منقوصة لا جوا ولا برا ولا بحرا، ترفرف أعلامها بكل حرية في فضاء مفتوح على العالم، لا تحده الحدود، ولا تقف في وجهه السدود، ويصدح نشيدها الوطني: أخي أنت حر فما من قيود.

إنها دولة الاكتفاء الذاتي؛ فلا تريد أن تعيش على بعبع المساعدات الخارجية، التي تسلبها قرارها السياسي، وتطوح بقوة مركزها الدولي، تزرع فتشبع رعاياها، وتصنع فتقي أتباعها آلام القر والحر، وتجنبهم دواعي الشر، تسعى لمساعدة المنكوبين دون مقابل، فلا تستغل البشر ومآسيهم، وما هم فيه من بلاء لتمارس عليهم احتلالا مقيتا باسم الإغاثة العاجلة، فتسرق أبناءهم، وتتاجر بهم، إنها الدولة الإنسانية بامتياز، تشعر مع الناس فقط لأنهم بشر، ويستحقون بالكرامة الإنسانية أن تقدم لهم المساعدة.

هذه هي الدولة التي نريد أيها السيد القمني، وليس دولة بني العباس، ولا دولة بني أمية أو العثمانيين أو المماليك وسم بعد ذلك ما شئت، إنها الدولة الإسلامية، وليست الدولة الرأسمالية الجشعة المستغلة، المسعورة الهادرة لكل القيم، ولا الدولة الشيوعية الطاغية التي تحكم الناس بالحديد والنار، تمنع الناس من أبسط حقوقهم، وتحول بينهم وبين إشباع غرائزهم، إنها حتما ووعدا صدقا، ليست دولة إيفان الرهيب، صاحب تلال الجماجم والبلاد المقلوبة رأسا على عقب.

إنها ليست دولة التخلف القاتل، ولا دولة الدمار الشامل، وليست دولة الخادم النادل، إنها دولة السيد العزيز، وأخيرا إنها دولة الحق والواقع، وليس دولة أحلام وخيالات أو مجرد خزعبلات أو جمل طنانة ورومانسيات، إنها الموعود القادم.

يا سيد القمني؛

إن أوغلت في التاريخ لإبطال مميزات الدولة الإسلامية، فاعرف أولا أنك لست أهلا للحكم على من صنعوا تاريخا مجيدا، ولتدرك ثانيا: أننا لسنا من يعيش في جلباب متهرئ مخيط من تجارب انتقيتها وتركت ما هو أسطع منها بيانا وأقوى دلالة على مميزات الدولة الإسلامية، وأما ثالثا: فلعلك ستشهد قيام الدولة القادمة، فستعرف بعدها مدى الاختلاف بين ما ادعيت على هذه الدولة وبين الواقع الذي ستعيشه، لتتنفس معنى العزة، إلا إذا ارتضيت أن ترتمي في أحضان من ساموا الأمة الخسف والخوف والهوان، وأنت عندها تكون قد اخترت ما يناسبك، وليكن في معلومك أن الدولة الإسلامية لن تسلم رعاياها لأعدائها حتى من كان عاقا منهم، فهم أبناؤها، ومن حقهم عليها أن ترعاهم حق الرعاية.

وأما رابعا أيها السيد القمني، فيكفينا أنا وأنت أن ننظر إلى الواقع السيئ، لنرى عقم الدولة التي تريد، وحسبنا أنا وأنت أن ننظر بعين العدل إلى الأفكار العظيمة لنرى كيف تكون عظيمة وواقعية عندما يتولاها أهلها الذين فهموها حق الفهم، ويا للعجب أيها السيد، أنك تسلم بروايات التاريخ متى كانت متفقة مع أهوائك، ولا تسلم بالروايات نفسها في المراجع ذاتها إن تعارضت مع ما جُبِلْتَ عليه من تصفيق وتلفيق وتنميق!!

               

* المقال في الأصل يرد فيه السيد القمني على مقال الكاتب محمد عمارة بعنوان (مميزات الدولة الإسلامية)، والمقالان منشوران منذ أشهر، وقد وصلني حديثا مقال السيد القمني عبر البريد الإلكتروني، ويذكر أن المقال منشور عدا روز اليوسف في مواقع إلكترونية متعددة.