يا عمال الإصلاح

التمام التمام قبل أن يخسف بكم

الشيخ خالد مهنا *

[email protected]

لقد حذر الشارع الحنيف من الفتن صغيرها وكبيرها معتبرا اي شكل من اشكالها هو الخسف والنسف بعينه , بل واشفق الاولون على اهل الفتن ومؤججوها وحذروهم من سوء عواقبها فقد قيل:

"لا يشخص اليها احد الا نسفته كما ينسف السيل الدمن" كما ورد عن حذيفه بن اليمان أمين سر الرسول صلى الله عليه وسلم ...

ومع ان شرعنا الحنيف حذر من كثير من الآثام والمعاصي والكبائر، إلا أن كئيرا من الناس ولجوها.. فان أدبرت عنهم كانوا اشد ظمئاً اليها من المنقطع عن الرحل وسط فلاة قاحلة....

وإذا كانت النظرة الثانية باب من ابواب الفتنه قد تؤدي إلى ما هو اكبر ولاجل ذلك اطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة جلية "النظرة سهم من سهام إبليس" فان الغش في التجارة فتنة...

والتناجش فتنة, والتنابز بالألقاب فتنة , وحب الثناء والمديح فتنة .... والغيبة فتنة لانها تقود إلى الكذب ومن استجاز واستباح الكذب لم يتورع عن النزاع والشقاق .... الى الف عيب ... لانه توالد مستمر وقد قال الفضيل بن عياض رحمه الله (اذا ظهرت الغيبه ارتفعت الإخوة في الله وانما مثلكم في ذلك الزمان (وكأنه يقرأ غيب الشرور والمتوالده عن الغيبة) شيء مطلي بالذهب والفضة داخله خشب , وخارجه حسن ...

فقد يكون حتى الاصلاح بين الناس والتحكيم بينهم فتنة ناسفة لا تبقي ولا تذر إذا ابتغى الإنسان من وراء ذ لك السلطة والجاه والوجاهة، وضجيج الطبول، ومدائح النساء ، واستجاشة حماس العجائز... وهذا هو الناقص بتمامه والمفضوح بفتوق لا رتق لها , بل شأن هذا المصلح والمحتكم إليه كشأن القمر حين يخسف , يخرج عن سكينته وصمته وجماله البهي , وقد كان الاولى بهذا المصلح بدل تشبيهه بالناقص ان يشبه بالمستكمل النقي الذي شبهه الاولون ببدر التمام في ليلته الرابعة بعد العاشرة حين يستدبر ولم يترجح ولم يتطاول.

* لقد كانت وصية السلف دائما : التمام التمام ارسلها ابو بكر رضي الله عنه من وراء الفيافي إلى خالد بن الوليد بعد انتصاره في العراق ان : (اتمم يتمم الله لك ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل وإياك ان تدل بعمل فان الله له المن ... وهو ولي الجزاء...) تاريخ الطبراوي 3/385

يطلب منه إتمام مهمته بصمت دون ضجيج إعلامي وكاميرات و في غير وقوف عن السير حتى يكون كذلك البدر...

· ثم ورثها عن خالد بن الوليد الذي سمع العظة البليغة فاخذ بها الامام احمد بن حنبل , فما وقف , حتى قال صاحبه المحدث ابراهيم الحربي :

(لقد صحبته عشرين سنة , صيفاً وشتاء , وحرا وبردا , وليلا ونهارا, فما لقيته في يوم الا وهو زائد عليه بالامس .) مناقب احمد لابن الجوزي / 140

لم يعرف الوقوف ابدا فضلا عن التخلف ورجوع القهقرى، إنما هو المرتقى المتمم , وان شهدت سيرته بعض الوقوف القصير فإنما هو توقف المستدرك والماحي.

ولبثوا في التقدم الجريء الى الامام في كل المجالات والمضامير حتى ازدانت الأرض بهم , ودانت لهم , وحين دخلوا السباق لم يجدوا منازعا لهم في مضمار التنافس على البر والخيرات, وكل مصر ان يقترب كل ساعة من الكمال أدنى وأدنى، فيرتاد كل يوم منزل فضل وقربى، لم يعرف لاحد قبله , ويأتي في التنافس بجديد , لم يكن له ولا لغيره بالامس وحتى راح الشاعر يتساءل بغرابه ويبدي دهشته مخاطبا احدهم :

عجبا بانك سالم من وحشة

في غابة ما زلت فيها مفردا

يتعجب كيف لم يرجف فؤاده، وهو المتوحد بلا انيس معه يشاركه حياته التي هو فيها ...

كانه طليعة جيش ...

وهذا هو شأن المصلحين الذين يرجون في عملهم مثوبة الله والأجر منه لا يرجف فؤادهم وان خاصمهم المتخاصمون , ولا يردعهم عن التمام نفوس الناس الملتوية .

يظن كل واحد منهم وان عودي واتهم بالانحياز انه كتيبة جيش كاملة...

ان الاصلاح بين الناس فرادى وجماعات وأحزاب متناحرة وعشائر وقرى ومدن واخوان ودول وهو افضل عند الله (ولا اقول ذلك متجرئا) من الصلاة والزكاة والصيام لان خيره عام ويعود على الفرد والمجموع , ولانه مبعث الامن والاستقرار والهدوء والاتحاد والارتباط ..

واذا تأملنا في تصرفات الانسان لوجدناه في بعض صفاته يملك طبائع حيوانية بحته , بل ان بعض من الحيوانات تخجل من تصرفات بني البشر , فهو يعشق المدنية والاختلاط والانس , وبعضهم يخاف القبر ليس بسبب العذاب الجسدي والذي يكوى به بل بسبب الوحشة التي تعتريه , ولذلك حبب الله الفضائل والآداب حتى يكون عضوا صالحا في جسم قريه ومدينه وشعب وأمة ناهضة, وامره بالتسامح والعفو والصبر عند الملمات، إلى غير ذلك من الامور التي تفرضها طبائع الاجتماع ..., الا اننا لو نظرنا في الانسان من زاوية اخرى لوجدناه يفضل ان يكون ظالما لا مظلوما... أنانيا يقدم مصلحته الشخصية على مصلحة ابناء بلده وشعبه وامته , ويسعى في نفعه ولو كان في ذلك اضرارا لسواه, لا يهمه خسران اخيه اذا ما ربح , وعلى جوع جاره اذا ما هو شبع , ولا يحزن بهلاك غيره اذا هو نجا.

بل لا يبالي ان يصعد الى عنان السماء على سلم من الجماجم والاجسام, وهذه الطبائع الاسدية الكاسرة كامنة في كل واحد منا , كمون النار في الحجارة والحديد, يسترها الضعف ويخفيها العجز، ويكبتها العرف، ويخفيها القانون ويسترها الدين , ولولا ذلك ما كان الانسان انسانا , ولولا ان المجتمع قيده، والدين هذبه، والقانون ارهبه.. لولا هذه القوى مجتمعه لعاش القوي من بني الانسان على لحوم الضعفاء ودمائهم كما تعيش الاسود والذئاب ...

بل لولا هذه القوى لأخذ الإنسان من الكواسر زئيرها .

والظلم من شيم النفوس فان تجد – ذا عفة فلعله لا يظلم.... وبما أن الإنسان مجموعه من صفاته المتناقضه فقد اكثر الله من المصطفين الاخيار وندبهم لمهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى رأسها مهمة الاصلاح حتى لا تعم الارض الفوضى، وحتى يقتل الشر في مهده ويموت في مكانه, ويقتلع من جذوره قبل ان يعز الدواء.. وهي مهمة تحتاج إلى مروءة كبيرة , ولا يمكن ان يفلح بها إلا أولئك الذين شرفت نفوسهم , وصفت ارواحهم, وكملت أذواقهم، واستقامت طباعهم , ويكفي هذه المهمة شرفا انها كانت امنية جبريل في الارض , فقد ورد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل ماذا كنت تفعل لو نزلت على الارض ؟

قال : كنت اسقي الماء وأصلح بين الناس.

واذا كنت اليوم_ وقد بات واقع الامه بأسها بينها شديد_ أضع المسؤولية الكبرى في اندلاع فتيل هذا البأس على مؤسسات الاصلاح التي ما ان تبدأ خطوتها في الاصلاح حتى تتراجع خطوات، فينشب عن تراجعها فتن وملاحم اكبر، فإنني في ذات الوقت أنادي بقية المشط العربي المتماسك قائلا له , ان اردتم ان تفهموا اسباب استفحال ظاهرة التطاحن بيننا والخصومه والنزاعات وتودون محاصرة ظاهرة البأسية بيننا وتطاحننا , فلا تفتشوا عن ضحية تلقون اللوم عليهما فالخلل منا وفينا , وما علينا الا ان نعلن انتفاضة على جاهليتنا الجديده التي من حيث فحواها ومحتواها اشد ظلاما وظلما من الجاهلية الاولى، فان كانت الجاهلية الاولى عبدت الاوثان والاحجار تقربا الى الله زلفى فان جاهليتنا اليوم تعبد أحزابها، وعائلاتها وحاراتها وقومياتها وازلامها ومن ظن غير ذلك فقد خدع نفسه .... وانّى لعابد هذا الحزب ان يتنازل عن مظلمته لصالح ذلك الحزب؟

ولقد كانت الجاهلية الأولى التي أطلقت شرارة داحس والغبراء ولم يطفئ أوارها إلا بعد 40 عاما قبائل متفرقة، وشعوبا متفرقة، وجاهليتنا العربية اليوم متفرقة فصائل، وحمائل ومنازل وبيوت , بل احادا وافرادا , فلا تراحم ولا تواصل ولا تعاطف او تلاطف , حتى بين الأخ وأخيه , والاب وبنيه... فانّى لأقوام هذا حالهم ان يقف فيهم واحد رشيد ويقول لئن اسلم أخي مفتاح العاصفة خير من اكون سببا في اشعال قتيلها؟

كانت جاهليتهم تسفك الدماء من اجل حصان وجاهليتنا تسفكها من اجل امرأة , وكانت أفظع ما في جرائمهم وأد البنات , فصار اخف ما في جرائمنا وأد الشباب والشابات كبارا بالهباب، وكان بعضهم يبغي على بعض بسرقة ماله او استياق ماشيته , ففعلنا مثل ما فعلوا وفوق ما فعلوا وبغينا على بعض بسبب خلاف سياسي، او خلاف في وجهات النظر، او خلاف على شبر من الأرض، أو جزيرة او حدود برية غير مستغلة، يكاد يستوي في ذلك المتدين والعلماني.. العالم والجاهل.. الشريف الهاشمي والفلاح العادي ....

وليتنا اذ تبنينا جاهليتهم واستدعيناها كما هي فلم نزد عليها، ولكنا أسأنا الاختيار فلنا خرافاتهم وشعوذتهم وأساطيرهم، وليس لنا كرمهم ووفائهم وغيرتهم وشهامتهم وحميتهم وعزمهم ومنعتهم , فكيف لا يكون الامر أخطر واعقد... وكيف لا تكون الجاهلية بحلتها الجديدة أحوج إلى دعوة كدعوة النبوة من الجاهلية الأولى ؟...

أنبئوني أين أجد تعاليم الاسلام؟؟؟

أين مقرها ومكانها ؟ واين مسلكها... وفي أي موطن من المواطن حلت واستوطنت وسكنت , وفي اي نزلت واستقرت؟

افي مجالس الاصلاح التي باتت مهوى افئدة النمامين والمستغيبين والانحيازيين ؟

أم في حوانيت الباعة حيث الغبن الفاحش مزخرفا بمعسول الكلام والأقوال الكاذبة والإيمان الباطلة ؟

ام في مجالس الاحكام حيث بات الانحياز للدينار هو اساس الحكم ؟

ام حتى في معاهد الدين التي تعلم التعصب اكثر من تعلم التسامح , وحيث بات المتعلمون يتلقوم الدين جسما بلا بروح , وهيكلا بلا نبض , وعلما بلا عمل , كانما يتلهون به.. فما أن يتخرجوا من معاهدهم الا وتحتضنهم مجالس المجادلات العقيمه والتباغض والتدابر , وهي بعينها الأخلاق والرذائل التي ما جاءت الاديان الا لمحاربتها، فهم يهدمون اكثر مما يبنون , ويسيئون اكثر مما يحسنون، بل هؤلاء ابشع انواع الادوت الهدامه ...

امام واقع كهذا فلا اضع لوم استمرار الخلاف الفلسطيني في دائرة التقريع والتعنيف لان خصامهم ليس نهاية المطاف، وإنما عدم متابعة خصوماتهم بالشكل الطلوب من كثير من الجهات هو اكبر القواصم ... فالتمام التمام أيها المصلحون...

وامام هذا الواقع النكد لا يكفيني أن اشرشح مجتمعنا العربي والاسلامي الذي يشهد اليوم اكبر ظاهرة عنف في تاريخه ....

كل ما اريد ان اقوله .. ايها العاملون في مجال الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف تنام اعينكم وتقر جفونكم وفي محيطكم الواسع شبت النار ووقف الشيطان يخطب خطبة الشر؟

هل تتمون عملكم قبل ان تخلدوا لفراشكم الناعم ؟

ام اتخذتم هذا الواجب مهنة تتكسبون منها سواء أنتجتم أم لم تنتجوا ...وسواء تابعتم القضايا بحزم أم تكاسلتم؟

           

* رئيس الحركة الإسلامية في ام الفحم وضواحيها..

رئيس الدائرة الإعلامية في الحركة الإسلامية القطرية-الداخل الفلسطيني.