عملية بلا- ذي

عبد اللطيف النكاوي

بين زغاريد الفرحة والغضب

عبد اللطيف النكاوي

[email protected]

1)     مقام الجمركي:

بعد أزيد من ساعة من الصفّ والانتظار تقدّمتُ أخيرا أمام الجمركي ، مرّة أولى، مرفقا بأوراقي وأوراق السيارة لكنه رفض تسجيلها لأنّي نسيتُ أن أحضرَ شهادة التأمين . غادرتُ طاولة الجمركي . فكّرتُ : كان بإمكانه أن يسجّلها ويطالبني بإحضار شهادة التأمين لاحقا ؟ ثم ما دخل الـتأمين في عملية المراد منها التحقّق من ملكيتي للسيارة ؟ أو هو أراد أن يذكّرني أن منطق المخزن لا زال ماسكا بزمام الأمور في البلد المتماثل خلف ضباب البحر؟  تطلّعت إلى وجوه المسافرين وقد حفرتها المسافات  ومتاعب السفر والانتظار، ومنهم من حجز غرفة قصد الاستراحة والاستعداد لبقية الرحلة ولكنه لن يستفيد من غرفته بسبب طابور الانتظار والإجراءات : البوليس والجمارك . فكّرتُ : إلى متى يغلب حبّ الوطن قانون الفوضى بل الإمّعة والاستهتار ؟ فدسست ثورتي في قول أمير الشعراء:

وطني لو شغلت بالخلد عنه  88  نازعتني في الخلد إليه نفسي

وعدتُ إلى شهادة التأمين . فكّرتُ أنها بقيت في السيارة ، في مأرب الباخرة الذي لا يمكن الدخول إليه بعد إبحارها. ولكنّي قرّرتُ التأكّد من الأمر فبدأت البحث في حافظة أوراقي لأجدها قد اندسّت بين الأوراق .  فعدت من جديد إلى الصفّ والانتظار لأزيد من نصف ساعة لأجد نفسي، مرة أخرى، أمام الجمركي :

 - هذه أوراقي وأوراق السيارة وهذه شهادة تأمينها كما طلبتم .

 - باغي تدابز ؟[1]

- لا ،  فقط أتساءل عن مدى ضرورة إحضار شهادة التأمين قصد تسجيل السيارة خاصّة وأن طلب هذه الوثيقة من صلاحيات الشرطة والدرك ؟ والأكثر من هذا شهادة التأمين غير واردة على لائحة الأوراق المنصوص عليها على موقع الجمارك الالكتروني .

- باغي تتدابز ؟ سؤال أراد به ، التأكد من مفعول سلطته ونفوذه . 

قالها الجمركي وأغلق الحاسوب وانصرف تاركا ورائه حشدا من المسافرين كان ينتظر خلفي . ثم أضاف :

 - سير عندهم  يخدموا ليك فاش توصل الباخرة . وقول لهم إنّي  ما عنديش الحق نطلب التأمين .[2]

ارتفعت بعض الهمسات مندّدة دون أن يكترث لها الجمركي وانسلّ  بين الناس إلى غرفته على متن الباخرة .

2)    مقام المقاتلات[3] :

البلد ليس في حالة حرب كما أن جيوشه ليست في حالة استنفار لدرء خطر يتهدّد الوطن . إنها فقط أشباه سيارات تتحدى قوانين السير والمرور المحلية والدولية يستعملها أصحابها ، شباب  في مقتبل العمر في خدمة "بارونات" التهريب ، لنقل "بدونات" البترول من "مصفاة بني درار"[4]  نحو مختلف نقاط البيع والتوزيع المنتشرة على قارعة الطرقات ، بين الوديان وفي الحقول . 

 يلتفت الشرطي المشغول بتنظيم حركة المرور الصعبة نظرا للارتفاع الفائق والمفاجئ لعدد السيارات في الصيف ، فإذا هو أمام وفد من "المقاتلات" ينتظر إشارة الشرطي بالمرور لأنها أي المقاتلات تسخر من القانون ولكنها لا تريد لفت الانتباه فوق الحدّ . ظاهرة ألفها المجتمع وألفته ، تقف على خيط رفيع بين الضرورة والقانون .  يبسم الشرطي ساخرا ثم يأذن للوفد بالمرور وكأن لا شيء حدث .

 تشتغل المقاتلات وفق نظام مضبوط وبتنسيق وتواطؤ مع من يرى ومن لا يرى وويح من صادفتْ طريقه واحدة من هذه المقاتلات أو وفد من المقاتلات . نعم في الأمر شغل أو قل بطالة مقنّعة . نعم في الأمر تخفيف على المواطن والدولة من فاتورة الطاقة. وهكذا تتعانق مصالح العاطل والمهرّب والمستهلك والدولة.  ولكن على حساب من وماذا ؟ أمن المواطن . النظام . الإحساس بالعيش الكريم في بلد تضبطه قوانين. لا يسأل عن القيم والضوابط والمصلحة العليا في هذه الديار إلا من ضربه حمار الليل والنهار . سؤال وحيد يستحق الطرح وسط طوفان الاستهلاك بل قل البلع :  بكم هذا ؟ الدخل ثم الدخل  ولا شيء غير الدخل . مجتمع بلعه الجشع واللهث وراء المال والربح السريع في أفق المزيد من التبرج والتبجح والانبطاح . فحذار أن تجازف بأسئلة من قبيل : كم كتابا أصدرنا ؟ كم كتابا قرأنا ؟ كم فلما أنتجنا ؟ كم اختراعا سجّلنا ؟ كم معهدا للبحث والاكتشاف دشّنا ؟  بلى ، بلى فقد  أغنينا المعجم بكلمات جديدة نابعة من أعماق أزمتنا مثل شمكار[i] ،  بزناس[ii] ، حرّاق [iii] ، مقاتلة [iv] ، والبقية تأتي ...

3)    مقام العسّاس[v] :

من مظاهر التمدّن أن يُنظّم فضاء المدينة بشكل يُسهّل على الزائر والساكن التنقّل والتوقّف بسيارته داخل المدينة . ولعلّ ابرز تجسيد لذلك ،  توفير أماكن مجانية أو مدفوع عنها لتوقّف السيارات. استغنتْ مدننا كبيرها وصغيرها عن هذه الخدمة لتُسلم ساحاتها وشوارعها لمواطنين لبسوا قمصانا صُفر أو برتقالية وبسطوا سلطتهم على حق توقّف السيارات ،  بحيث صار يستحيل عليك دخول شارع دون أن يطلع لك شخص يلوّح بعصاه في الهواء يدعوك إلى الوقوف . يدخل الرجل في حركات توجيهية تصبح معها عاجزا عن سياقة سيارتك وتجعلك تندم على دخولك هذا الشارع . ولكن ما جدوى الندم ما دامت الشوارع الأخرى تعرف نفس الظاهرة . وإذا أنت أردت آن تتخلّص من كل هذه الويلات وعواقبها على الأعصاب  ما عليك إلا أن تتصاحب مع احدد العسس وان تفهمه أنك لست في حاجة إلى مساعد سياقة وانك كل مرة قادتك عجلاتك إلى هذا الشارع ستأتمنه سيارتك . طبعا لكل هذا  ثمن يتراوح بين ثلاثة وخمسة دراهم وكلما طالت مدة التوقف زاد الثمن طبعا . وإذا أنت استغربت وأبديت دهشة ، أجابك العسّاس بأنه لا يعدو أن يكون عاملا لدى "الباطرون" الذي اكترى الساحة أو الشارع وأحيانا الشوارع من البلدية بثمن باهض . سألتُ مرّة احد العسس عن انطباع سائح أجنبي لا يعرفنا ولا يعرف أن مدننا رغم مجالسها وممثّليها وما يرافق ذلك من مظاهر التبرّج والتبجّح لا زالت تفتقد تسييرا يليق بمدن القرن الواحد والعشرين :

 - ترى كيف سيفسّر هذا السائح هذه الجيوش من العسس المجنّدة عند مداخل الشوارع والساحات العمومية ؟ ( سألت العسّاس هذا السؤال حتى أقدّر المسافة بين النظرتين )

- سيدفع مثل الآخرين ؟

 - وسيفكّر أن المغرب كله لصوص وقطّاع طرق وألاّ أمن ولا أمان في هذا البلد ...

 - لا، لا ، هم يعرفوننا...

 - يعني لا حقّ لمن لا يعرفنا أن يتعرّف علينا.......

قطع العسّاس خيط الحديث وانطلق يعدو نحو سيارة أقلعت من مكانها حتى لا يفلت صاحبها من أداء الضريبة ......

ولأن الناس بدأت تقلق من هذه الظاهرة التجأ العسس إلى طرق جديدة في الحراسة فصار لا يظهر لصاحب السيارة إلاّ عندما يقدم هذا الأخير على  مغادرة المكان . وقتها ينتصب أمامك مطالبا بثمن الحراسة فإذا أنت اعترضت بأنه لم يكن هنا حين أوقفت سيارتك ، ذكّركَ بساعة وصولك  وأحصى على مسامعك عدد الأشخاص الذين كانوا يرافقونك وتفاصيل تجعلك تدفع دون تردد ....

4)     مقام " دي  د جي " [vi]:

لكل فرد حقّ التعبير عن فرحته وسعادته بالطريقة التي تناسبه، سواء أكان مصدر هذا الفرح والسعادة زفافا ، ختانا أو نجاحا . ولكن ما لا يقبله قانون التمدن ومبادئ المواطنة البسيطة هو أن يصبح هذا التعبير الصاخب عن السعادة والفرح مصدر قلق وإزعاج للجيران البعيد منهم والقريب . عن أي جوار وعن أي مواطنة  تتكلّم  ؟ مادام  منشّطي الأعراس والأفراح قد رفعوا شعار الضوضاء والصخب على حساب كل القيم .

كسدت تجارة الأجواق الموسيقية التي كانت تحيي حفلات الأعراس الصاخبة لتحل محلها خدمات " دي دجي "  الأقل تكلفة ولكنها أكثر ضوضاء وأكثر صخبا لاعتمادها على تقنيات الحاسوب ومكبرات الصوت القوية ، بحيث صار معيار مصداقية ونجاح " د يدجي "يقاس  بحداثة ومتانة الأجهزة الالكترونية التي يمتلكها : كلما كانت مكبرات الصوت قوية مدوية ومدمرة للأسماع كلما كانت سمعة "د ي دجي " واسعة وذائعة .

ولا يكتفي " دي جي " بسك أسماع الحضور والجيران وهنا يجب أن يفهم من كلمة جيران نصف المدينة وأحيانا المدينة بكاملها وضواحيها ، بدفق متنافر من الإيقاعات والأصوات بل يتعدى ذلك ليدخل في مزايدة محمومة مع كل من حاول أن يعلو على ضوضائه . مزايدة لا ينجو منها المؤذن مع حلول آذان صلاة الفجر وهو أمر لا يبدو مقلقلا لأحد بما في ذلك من يفتكّ راتبه من جيوب المواطنين مقابل السهر على راحتهم وأمنهم .

إذاَ ، إلى متى تلك الفوضى وهذه الإمّعة ؟

أم ترى أن حماري الليل والنهار قد فتكا بأسماع وأبصار سكّان هذه الديار؟

               

[1] تريد أن تتعارك

[2] اذهب عندهم عند وصول الباخرة وقل لهم إنه لا يحق لي طلب أوراق تأمين السيارة

[3]   سيارات مهترئة الهياكل يستعملها أصحابها لتهريب البضائع

[4]      نسبة إلى قرية في شمال شرق المغرب نشيطة في مجال التهريب من وإلى الجزائر

[i]  كلمة مركبة من شم ّ وكار  (حافلة) تطلق على يتعاطى أنواعا بدائية من المخدرات كشم مدخنات الحافلات

[ii]  من الإنجليزية business وتطلق على تجار ومروجي المخدرات     

[iii] من فعل حرق بمعنى خرق القانون وتطلق على من يهاجر إلى أوروبا بطريقة غير قانونية

[iv] سيارة مهترئة يستعملها أصحابها لتهريب البضائع

[v] باللهجة المغربية الحارس بالليل كما بالنهار

[vi] من الإنجليزية  disc jokey المنشّط الفني المكلّف باختيار الاسطوانات