الغرب والعرب: عبث المفاضلة بين مذهبي الإسلام

الغرب والعرب:

عبث المفاضلة بين مذهبي الإسلام

محمد قواص

تعامل الغربُ مع الإسلام السياسي منذ بدايات القرن الماضي، وتعرّف إلى مدارس وتيارات ومشارب الجماعات الإسلامية من ضمن اشتغاله على منظومة الأدوات التي يهيمن من خلالها على عالم ما بعد العثمانية، ويقارع بها خصومه.

في عصر الحرب الباردة بدا واضحاً أن تحالفاً موضوعياً يجمع هذا الغرب مع الإسلام والإسلاميين، سواء من خلال المنابر الدعوية أو تلك السياسية. تنامت علاقات الغرب مع الدول الإسلامية في التصدي للإلحاد الذي تبثّه الثورة في روسيا على العالم. وفي تلك الورشة، ارتفعت حميمية العلاقات الغربية مع الجماعات الإسلامية، «إخواناً» وسلفيين وصوفيين... إلخ.

على قاعدة ذلك الوصل جرى توظيف الإسلام السياسي لمكافحة الحمى القومية اليسارية التي اجتاحت العالم وشكّلت المحوّر الأساسي للعالمثالثية، كما حصّنت ترابطاً بين الكيانات الحديثة الاستقلال والمركز الإمبراطوري للحلف الشرقي في موسكو. في المقابل، لم تجد تلك الجماعات حرجاً من نسج علاقات مع «أهل الكفر» الغربيين، ذلك أن الشيوعية، الملحدة عدوة الدين، باتت خطراً عاجلاً حقيقياً اخترق مجتمعات المنطقة، كما أضحت، في يساريتها المكمّلة ديدن الأنظمة «التقدمية» في المنطقة.

تناقض الإسلام السياسي مع الناصرية في مصر، ومع نظام عبدالكريم قاسم ذي «الانحرافات» اليسارية في العراق، ومع نظامي البعث في دمشق وبغداد، ومع نظام الجماهيرية في ليبيا، ومع نظام الثورة في الجزائر... إلخ. تحوّل التناقض والخلاف والتباين إلى صدام مصيري علني كبير تنوّعت أشكاله وظواهره، من اغتيال حسن البنا وإعدام سيّد قطب في مصر، مروراً بالصدام مع «الإخوان» في سورية ومع حزب الدعوة في العراق والصدام مع الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا، وليس انتهاء بالصدام مع جماعات ما بعد «الإنقاذ» في الجزائر... إلخ، فيما تطورت أشكال هذا الصدام مع ظاهرة الأفغان العرب الذين جددوا في عودتهم من المعركة ضد الاحتلال السوفياتي الصدام التقليدي القديم مع الأنظمة الحاكمة هنا وهناك.

قادت الرياض في مقارعتها الناصرية في النصف الثاني من القرن الماضي، ورشة عالمية تتأسس على الإسلام كلبنة مشتركة تتجاوز الفكر القومي العروبي المتعلمن. وراج في السبعينات سلوك تعتمد من خلاله أنظمة الحكم على الإسلام السياسي في كبح جماح القوى اليسارية التي ازدهرت وباتت تشكّل قلقاً حقيقياً. بات على رأس السلطة في مصر «الرئيس المؤمن» (أيام السادات)، فيما توارى النظام السوداني خلف قوانين فرض الشريعة (أيام النميري). وفي إطار هذا المزاج توطّدت علاقات الغرب مع الأنظمة السياسية ذات البعد الديني، كما مع الجماعات الرديفة، فيما وصلت تلك العلاقات إلى أوجها في الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفياتي.

أنِسَ الغرب لحراك الأمام الخميني كبديل لنظام الشاه في إيران. وجد الغرب في صعود الشيعية السياسية في إيران سداً موثوقاً ضد الاتحاد السوفياتي. كانت الحرب الباردة هي المحدد الأول للخيارات، والتي على أساسها تتدخل واشنطن لإطاحة حكومة مصدّق وإعادة حكم الشاه في الخمسينات، وتتخلى عنه لمصلحة الحكم الإسلامي الجديد في نهاية سبعيناته.

بيد أن أزمة كبرى هددت سلاسة العلاقة التاريخية بين الغرب والإسلام السياسي. اصطدم الحكم الجديد في طهران مع الخيارات الغربية، كما اصطدمت الجماعات الجهادية ما بعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان مع تلك الخيارات. تفاقم هذا الصدام إلى درجة استراتيحية خطيرة في واقعة 11 أيلول (سبتمبر) في نيويورك وواشنطن. على أن التناقض الغربي مع السنّية والشيعية الجهادية لم يأتِ وفق رؤية موحّدة للجهاديين، بل وفق أجندات مختلفة، وظهر في ما بعد أنها متناقضة وتحمل بذور صدام بينيّ خطير.

يدرك الغرب في مقاربته للإسلام السياسي تباين مذاهبة وتضاد نهاياته. تمّ في خبايا العقل الغربي، إثر كارثة 11 أيلول تبني سبل تعتمد على إسلام سياسي مقابل إسلام سياسي آخر. استوطنت العقل الغربي قناعة تضع الجهادية السنّية بصفتها نقيضاً رئيسياً سرمدياً للغرب في هذا الشرق، فيما جرى التقليل من التتاقض مع الإسلام السياسي الشيعي، ذلك أنه مرتبط بمصالح النظام الإيراني، وينشط تحت سقف طهران التي تمتلك، إذا أرادت، ضبط إيقاعاته والتحكّم بحركته.

شكّلت الحرب ضد العراق عام 2003 نموذجاً للمدرسة الغربية الجديدة في المنطقة. قدّمت تلك الحرب العراق لقمة سائغة لإيران، وقام النظام البديل متأسساً بصورة فجّة على الإسلام السياسي الشيعي بغضّ النظر عما أنتجه ذلك من تهميش موجع أصاب السُّنّة ونخبهم. عقدت طهران وواشنطن شراكة مضمرة لإدارة الشأن العراقي، فيما منعت الولايات المتحدة، بما تمتلكه من نفوذ، الدوائر العربية المحيطة من التأثير في دواخل السياق العراقي المعتمد.

على أن إقامة «الصحوات» ضد «القاعدة» في العراق، شكّل العلامات الأولى لاضطراب طرأ على قناعات واشنطن إزاء الاعتماد كلياً على الشيعية السياسية. وبدا من خلال تصريحات الرئيس أوباما الأخيرة على الأقل، تراجعاً عن تلك السياسة، وتحميلاً لبغداد (التي دعمت واشنطن نظامها) مسؤولية تنامي المظلومية السنّية المفجّرة ظاهرة «داعش» وتوابعه.

وعلى رغم أن جبهة عالمية إقليمية تقوم لمكافحة الجهادية السنّية، بطبعة ما بعد القاعدة، وأن آليات الأمر تجرّ منطقياً مياهاً إلى طاحونة الشيعية السياسية، إلا أن ميكانزمات تلك الورشة حريصة على حرمان إيران من قطف محاصيل ذلك، على منوال ما حدث في العراق عام 2003، كما أن تأملاً غربياً لما آلت إليه الأمور بدأ يشي بتحميل إيران مسؤولية تفاقم حال الاحتقان السنّي في كل المنطقة (لاحظ قلق واشنطن من تنامي البيئة الحاضنة لـ «القاعدة» في اليمن إثر الزحف الحوثي على صنعاء).

وفيما تزعم الجهادية السنّية كما الشيعية براءتها من أي تقاطع في المصالح مع الغرب، فإن الفريقين يتأملان عن كثب موقف هذا الغرب في ترجيح كفة لمصلحة هذا وذاك. في ذلك تعيشُ المنطقة، في ظل فراغ في الزعامة والمشروع، حالة استسلام كامل لمزاج هذا الغرب وتبدّل خياراته في تنشيط ورشة ثبت منذ عقود أنها مسؤولة في شكل مباشر ومقصود عن حالة التشظي والانقسام التي تصيب المنطقة. لا تنتج تلك الحالة عن خلافات أيديولوجية بين الجماعات، بل هي نتيجة مباشرة لتناقضات كبرى على مستوى أنظمة الحكم العربية مع نظام طهران.

في المحصلة، لم يعد التبسيط الغربي في التعامل تارة مع الشيعة وتارة مع السنّة سلوكاً آمناً وحذقاً. ولم تعد المهارة الغربية في اللعب على التناقضات بين طهران والعالم العربي، لا سيما دول الخليج، وسيلة مثلى للسيطرة على الفرقاء وفق ماكيافيلية «فرّق تسد». يستفيقُ الغرب فجأة على حقيقة أن المنطقةَ أضحت تمتلك مفاعيل ذاتية تهدد فوضاها الأمن الدولي برمته، وأن هذا الغربَ يواجه ربما أخطر أزمة في تاريخه الحديث، حيث يبدو واضحاً هزال الأوراق التي يمتلكها، مقابل غزارة تلك التي يملكها لاعبو المنطقة، أنظمة، وجماعات.