لماذا فشلنا.. ونجح الأسد والبغدادي؟!

د. حمزة رستناوي

[email protected]

في هذه اللحظة يعاد تاريخ كتابة الشرق الأوسط و الهلال الخصيب من جديد , حيث أنّنا أمام مشهد يوحي بوفاة الدولة السورية على الأقل وفق الصيغة التي عهدناها طلية سبعة عقود , حيثُ  تظهر حدود جيو سياسية جديدة يحتفظ فيها النظام الأسدي بدمشق و الساحل السوري و ربّما مع المدن الأساسية في المنطقة الوسطى , بينما يرسّخ البغدادي سلطة ما يُسمّى "بدولة الخلافة الاسلامية في شرق سوريا و وسط العراق حتّى الموصل  , أما الأكراد فقد حسموا أمرهم باتجاه الانفصال و خيار الدولة القومية وهم يتقدّمون لتحقيقها بنجاح نسبي.

إن خارطة النفوذ الحالية هي حصيلة صيرورة بدأت شرارتها مع انطلاق الثورة السورية في آذار عام 2011 م , حيث انطلقتْ ثورة شعبية ضد الاستبداد الأسدي , ثورة ذات طموحات وطنية ..و لكنّها و لأسباب داخلية و خارجية مختلفة - لا مجال للحديث عنها في هذه المقال - تحوّلت الى ثورة السنّة العرب ضد النظام الطائفي الاسدي و النفوذ الامبريالي الايراني , و في النهاية وصلنا إلى تَصَدّر مشروع دولة استبداد ديني وفق الايديلوجيا السنّية واجهة المشهد مع اعلان ( دولة الخلافة الاسلامية ) في بداية رمضان الجاري.

*

باستقراء واقع ثلاث سنوات من الصراع نجد نجاح المشروع الاسدي في المحافظة على وجوده كدولة أوّلاً , و من ثمّ استعادة نفوذه تدريجيا على مناطق كان قد خسرها سابقا. و نجد نجاح مشروع البغدادي  و "دولة الخلافة الاسلامية  " بحضورهم كسلطة أمر واقع على مناطق واسعة من سوريا و العراق , هذا بغض النظر عن الموقف السياسي و الأخلاقي من هاذين الكيانين السياسيين , و لكنهما من منظور سياسي توصيفي بحت مشاريع ناجحة , مقارنة بالمشروع المتعثر و الفاشل للقوى الثورية و الاسلامية الأخرى . و ليس  أدلَّ من ذلك في هذه اللحظة هو توالي المبايعات الى "دولة الخلافة الاسلامية " من قبل قوى عشائرية و قواد و فصائل الجيش الحر في مناطق نفوذها. و كذلك توالي  ما يسمّى بالمصالحات الوطنية في ريف دمشق و حمص القديمة و قيام الكثير من السياسيين المعارضين بتسوية أو طلب تسوية وضع مع النظام الأسدي.

و قناعة – كاتب هذه السطور -  أن الانحياز السياسي لأيِّ من المشروعين , هو تأييد لمصالح القصور , و إعادة انتاج الاستبداد مُجدّدا و مصالح الدولة الفاشلة , و هو نقيض القيم و الروح الثورية التي نادت بها الثورة السورية على الأقل في تألّقها و طورها الأوّل.

*

السؤال لماذا فشلنا و نجح الأسد و البغدادي؟

إن للنجاح قوانين و سنن من يأخذ بها ينجح , و هي قوانين عامة تنطبق على كل المجتمعات و المجموعات البشرية بغض النظر عن اختلافاتها الدينية و السياسية و العرقية.

و هذه السنن هي بمثابة بداهات للنجاح في العمل السياسي , لا بل و الحياة أيضا.

و سأعرض لاثنتين منها:

أولاً : الوحدة و حسن التنظيم :

منذ البداية و عندما قامت الثورة , الأسد كان يملك مقومات دولة , و الدولة آلية منظمة بطبيعتها , خاصة في القطاع العسكري و الأمني , و هذا يتيح له آلية لجمع المعلومات و التعامل معها , و آلية لاتخاذ القرار , و كذلك  وجود آلية هرمية لتنفيذ القرار , و تقيّم الوضع و معرفة نقاط الضعف و من ثم تجاوزها. و في مجريات الصراع ستظهر جبهة النظام الاسدي موحدة متناغمة إلى حدّ كبير , و لنأخذ على سبيل المثال الاعلام..هناك اعلام حكومي رسمي , شبكات تواصل اجتماعية مُراقبة تسوّق خطاب أقل تشذيبا و أكثر عصبويّة , و هناك قنوات أخرى ترتدي قناع الحرفية فيها مساحة  معينة لرأي معارض يتم استخدامه بطريقة ذكية كقناة الميادين و جريدة الاخبار اللبنانية . الأسد كائن مقدّس و أقانيم  المقاومة و الثورة الاسلامية الايرانية  و مقاومة " الارهاب التكفيري " كذلك مقدّسة لا يجوز التعرّض لها.

أما بالنسبة للبغدادي و مشروع " دولة الخلافة الاسلامية " فهو يقوم أساسا على فكرة المبايعة و الولاء و البراء , و الوحدة و التنظيم هنا تتَّخذ بعد عقائدي , فطاعة أمير المؤمنين هي طاعة لله و ليس أقل من ذلك أبداً , هذه الوحدة و حسن التنظيم تتيح للبغدادي  إمكانية تطبيق تخطط استراتيجي ناجح نسبيا  يتمثل في فكرة التمكين ,و كمثال عليه : عدم قتالهم  لنظام الأسدي رغم كل الإحراج الذي  تعرّض له التنظيم خاصة  قبل الحاضنة الشعبية السنية , و رغم كل  الاستنكارات التي انهالتْ عليه من كل حد و صوب , فقد كان هذا التنظيم مُصرّا على عدم الدخول في معركة تتنافى مع اولوياته و خططه الاستراتيجية , و هذا مستحيل في حال تنظيم أو جماعة تخضع في سياساتها و مواقفها لردّات الفعل و العشوائية أو تعدد مراكز اتخاذ القرار.

ثانياً : الاعتماد على الموارد المتاحة:

أن مشروع الثورة بما تتضمّنه من صراع مسلّح هي كغيرها من المشاريع تحتاج الى مصادر تمويل مستمرة , و الادارة الجيدة لأي مشروع تُعنَى أوّلاً و أساسا بالموارد المُتاحة و الاستفادة القصوى منها  و تقنين الاستخدام , و بعد ذلك تأتي محاولات تأمين و استجرار موارد خارجية إن أمكن. و النظام الأسدي بشكل عام لا يشكو نقصا في الموارد سواء البشرية و المادية كالعتاد العسكري و الوقود و المواد الغذائية و غيرها..بالنظر لشبكة الأمان التي يملكها إقليميا و تقاطر المتطوعين الشيعة من العراق و لبنان ,  و هذا على النقيض من تنظيم الدولة , و كذلكَ القوى الثورية و الاسلامية المقاومة للنظام الاسدي.

فتنظيم الدولة أول ما بدأ بالاستيلاء على مصادر التمويل كحقول النفط  و بعض المعابر التي تدر عليه دخل جيد , و من ثم قام باغتنام كميات كبيرة من الاسلحة و الذخيرة من الجيش العراقي , لا بل أنه كان يقوم بعمليات قرصنة على إمدادات الجيش الحر (تحت تبريرات هشة عقائديا ) و بغض النظر عمّا يقال عن دعمهِ غير المحدود خارجيا من قبل ايران ودول الخليج و لكنه كلام فيه مبالغة , و لا يستند على بيّنة يُعتدْ بها , و لكن المشهور به تنظيم القاعدة و مشتقاته و تنظيم الدولة هو أن يستفيد بشكل متبادل من الصراعات الاقليمية و الدولية , و من وجهة نظر برغماتية هذا يسجّل لصالح التنظيم ,  كما استفاد قبله بن لادن و القاعدة من الدعم الامريكي في مرحلة قتال السوفيت , لا بل ما تزال زراعة تجارة المخدرات هي مصدر أساسي لتمويل لطالبان أفغانستان مثلا.

و لنتكلّم الآن عن تمويل و إدارة المصادر عند  القوى الثورية و الاسلامية المقاومة للنظام , فهي -في العموم - رهنتْ نفسها لأجندات الدعم الخارجي الاقليمي الغير بريئة , و ربطتْ نفسها و مصيرها بتواجد و استمرار الدعم العسكري الخارجي , و فوق ذلكَ هي لم تكن مخلصة في حالات كثيرة في تعاطي مع أسبابه و مستحقّاته , فغياب هيكل تنظيمي موحَّد سواء على المستوى السياسي أو العسكري ساهم في تشرذم هذه القوى و تنازعها ..و هذا تتحمل مسؤوليته هي نفسها , و الطابع العام لنشاطها كان فتح جبهات و استنزاف الموارد بطريقة عفوية و ارتجالية ..و يلاحظ هنا كثرة اطلاق معارك, تحت مسميات عريضة ..خصوصا في مسلسل وادي الضيف و الحامدية ..و فتح و اغلاق جبهة الساحل و غيرها ,  و فشل أو توقف الكثير من هذه المعارك ..بعضها نفاذ الذخيرة بعد يوم واحد فقط من اطلاق المعركة ,  كل هذا خلق شعورا من ضعف الثقة في هذه القوى.

صحيح أنّ المتاح قد يكون قليل بالمقارنة , و لكن عدم التخطيط و عدم ترشيد الموارد تسبب في احباط مضاعف , و هنا يمكن الاستعانة بأهل الاختصاص من العسكريين لتطوير اساليب قتالية قليلة التكلفة كحرب العصابات و الاستفادة من التضاريس و غيرها.

لم تأخذ هذه القوى بالأسباب , و انطلقتْ من تصوّر مثالي في موضوع التدخل الخارجي , و نجد ضعف ادراكها  للعبة المصالح و قراءة الواقع السياسي . فعندما تكون - كقوى ثورية و اسلامية  مقاومة للنظام الأسدي - مُنقسم على نفسك و لا تملك رؤية سياسية واضحة حول تلاقي المصالح , لن يدعمك الآخرون فالدول تدعم من تشعر أنه ثقة لتلقي الدعم و من يُعتمد عليه , و كذلكَ  عدم اعتماد هذه القوى على المهنيين و ذوي الخبرة كان له نتائج كارثة.

فإدارة الموارد المالية تحتاج لاختصاصيين , يعرفون كيف يضبطون الواردات و الصادرات و الصندوق ,  بجداول و حسابات و اولويات , و كذلك شأن العسكريين و الاعلاميين و غيره..فإذا كانت تعقيدات و صعوبات الواقع الداخلي , تبرر ربما فشل الائتلاف العسكري السياسي , ماذا عن الجانب الاعلامي  مثلاً ؟! فعدم وجود سياسة و تخطيط اعلامي أدى  لخسارة المعركة الاعلامية ,  ليصبح الارهاب هو العنوان الأبرز للثورة السورية .

و منه كذلكَ : عندما يبايع أبو محمد الجولاني أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة , و من المعروف قبل هذه المبايعة أنّ جبهة النصرة هي جزء من تنظيم القاعدة الأممي , كيف نتوقع من القوى الاقليمية و الكبرى تقديم الدعم لقوى , عصبها الاساسي - او تقاتل مشاركة مع - جبهة النصرة ؟! و ما زاد الطين بلّه هو التحشيد الشعبي حيثُ تمَّ رفع شعار " كلنا جبهة النصرة " من قبل متظاهرين !!

ليوصد باب الدعم الغربي نهائيا خاصة بالأسلحة النوعية, قد يقول قائل و لكن الغرب منذ البداية بسلبيته القاتلة خذلنا و دفعنا كقوى ثورية الى التطرف, أقول هذا صحيح , و لكن عدم الحصول على دعم غربي لا يعني اليأس و شراء العداوة , و الثورة هي صيرورة مستمرة و كل شيء قابل للتغير . و أما فيما يخص الائتلاف فثمة اشكالية كبيرة منذ البداية بانفصاله عن القوى الثورية و الاسلامية العاملة على الارض , و محافظته على مسافة منها و تورّطه في شللية قاتلة و انتشار الفساد في مؤسساته ,  الائتلاف لم يشتغل  على السياسة  بوصفها فاعلية , موضوعها القاعدة الشعبية , ولم يُعنى بإدارة صراع سياسي مُنتج ضد النظام , صراع يستند إلى موازين قوى حقيقية على الأرض.

ما سبق في المقال يمكن اعتباره نقد ذاتي  آمل أن يكون ايجابي , و هو محاولة لتجاوز قصور قاتل ساهم في تبدد أحلام شعب , و ضياع وطن.