الحرية في ظلال القرآن

سيد قطب رحمه الله

قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

 إن قضية العقيدة - كما جاء بها هذا الدين - قضية اقتناع بعد البيان والإدراك، وليست قضيةَ إكراهٍ وغَصْبٍ وإجبار، ولقد جاء هذا الدين يخاطبُ الإدراكَ البشري بكل قواه وطاقاته. يخاطب العقل المفكر، والبَداهة الناطقة، ويخاطب الوجدان المنفعل، كما يخاطب الفطرة المستكنة. يخاطب الكيان البشري كله، والإدراك البشري بكل جوانبه، في غير قهرٍ حتى بالخارقة المادية التي قد تُلجِئُ مُشاهِدَها إلجاءً إلى الإذعان، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكَه لا يتعقلها، لأنها فوق الوعي والإدراك.

 وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحِسَّ البشري بالخارقة المادية القاهرة، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديدِ أو مُزاولةِ الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.

 وفي هذا المبدأ يتجلى تكريمُ الله للإنسان، واحترامُ إرادته وفكرِه ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعةَ عمله وحساب نفسه، وهذه هي أخصُّ خصائص التحرر الإنساني، التحرر الذي تُنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهبُ معتسفة ونُظمٌ مذلة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرَّمه الله -باختياره لعقيدته- أن ينطوي ضميرُه على تصورٍ للحياة ونظمِها غيرِ ما تُمليه عليه الدولةُ بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها، فإما أن يَعتنق مذهبَ الدولة هذا -وهو يَحْرِمُه من الإيمان بإلهٍ للكون يُصَرِّف هذا الكون- وإما أن يَتعرَّض للموت بشتى الوسائل والأسباب!

 إن حرية الاعتقاد هي أولُ حقوق «الإنسان» التي يَثبت له بها وصفُ «إنسان»، فالذي يَسلب إنساناً حريةَ الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيتَه ابتداءً، ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة، وإلا فهي حرية بالاسم لا مَدلولَ لها في واقع الحياة.

* * *

 إن الإسلام يقوم على قاعدة: {لا إكراه في الدِّينِ قد تبيَّن الرُّشدُ من الغَيّ}، ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيفِ مجاهداً؟ ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسَهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنةَ {يُقاتِلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون}؟ إنه لأمرٌ آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد، بل لأمرٍ مناقضٍ تماماً للإكراه على العقيدة، إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد، لأن الإسلام كإعلانٍ عام لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد، يُواجِهُ دائماً طواغيتَ في الأرض يُخضِعُون العِبادَ للعباد، ويواجه دائماً أنظمةً تقوم على أساس دينونةِ العبيد للعبيد، تحرس هذه الأنظمةَ قوةُ الدولة أو قوةٌ تنظيمية في صورةٍ من الصور، وتَحُول دُونَ الناس في داخلها ودُونَ سماع الدعوة الإسلامية، كما تَحُولُ دُونَهم ودُونَ اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسُهم، أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل، وفي هذا يَتَمَثَّلُ انتهاكُ حريةِ الاعتقاد بأقبح أشكاله.

 ومن هنا ينطلق الإسلامُ بالسيف لِيُحَطِّمَ هذه الأنظمة، ويُدَمِّرَ هذه القوى التي تحميها.. ثم ماذا؟ ثم يترك الناسَ -بَعدَ ذلك- أحراراً حقاً في اختيار العقيدة التي يريدونها، إن شاءوا دخلوا في الإسلام، فكان لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات، وكانوا إخواناً في الدِّين للسابقين في الإسلام! وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية... مشاركةً منهم في نفقاتِ الدَّولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يَستسلموا بعد، وتكفل العاجزَ منهم والضعيفَ والمريض كالمسلمين سواءً بسواء.

* * *

 لقد انتضى الإسلامُ السيف، وناضل وجاهد في تاريخه الطويل، لا لِيُكرِهَ أحداً على الإسلام، ولكن ليكفل عدةَ أهدافٍ كلها تقتضي الجهاد.

 جاهد الإسلامُ أولاً ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنةَ التي كانوا يُسامُونَها، وليكفل لهم الأمنَ على أنفسِهم وأموالِهم وعقيدتهم، وقرر ذلك المبدأ العظيمَ الذي سلف تقريرُه.. {والفتنة أشدُّ من القتل}. فاعتبر الاعتداءَ على العقيدة والإيذاءَ بسببها وفتنةَ أهلِها عنها أشدَّ من الاعتداء على الحياة ذاتِها، فالعقيدةُ أعظمُ قِيمةً من الحياة وَفق هذا المبدأ العظيم، وإذا كان المؤمن مأذوناً في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من بابِ أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه.

 وجاهد الإسلامُ ثانياً لتقرير حريةِ الدعوة -بعد تقرير حُرِّية العقيدة- فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة، وبأرقى نظام لتطوير الحياة، جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها، ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها، فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولا إكراهَ في الدِّين، ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقباتُ من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة، كما جاء من عند الله للناس كافة، وأن تزول الحواجزُ التي تمنع الناسَ أن يَسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهُدى إذا أرادوا، ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نُظمٌ طاغية في الأرض تَصُدُّ الناسَ عن الاستماع إلى الهدى وتَفتِنَ المُهتدين أيضاً، فجاهد الإسلامُ لِيُحَطِّمَ هذه النظمَ الطاغية، وَلِيُقيمَ مكانَها نظاماً عادلاً يكفل حريةَ الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدُّعاة، وما يزال هذا الهدفُ قائماً، وما يزال الجهادُ مفروضاً على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين!.

 وجاهد الإسلامُ ثالثاً ليقيمَ في الأرض نِظامَه الخاصَّ ويُقرِّرَهُ ويَحْميه، وهو وَحدَه النظامُ الذي يحقق حرية الإنسان تِجاهَ أخيه الإنسان، حينما يُقَرِّرُ أن هناك عبوديةً واحدةً لله الكبير المُتَعال، ويُلغي من الأرض عبوديةَ البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها، فليس هنالك فَرْدٌ ولا طبقة ولا أمة تُشَرِّعُ الأحكامَ للناس، وتستذلهم عن طريق التشريع، إنما هنالك رَبٌّ واحدٌ للناس جميعاً هو الذي يُشَرِّعُ لهم على السواء، وإليه وَحْدَه يَتَّجِهُون بالطاعة والخضوع، كما يتجهون إليه وَحْدَهُ بالإيمان والعبادة سواء، فلا طاعةَ في هذا النظام لبشر إلا أن يكون مُنَفِّذاً لشريعة الله، موكلاً عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ، حيث لا يملك أن يُشَرِّع هو ابتداءً، لأن التشريع من شأن الألوهيةِ وحدها، وهو مَظهرُ الألوهية في حياة البشر، فلا يجوز أن يُزاوِلَهُ إنسان فَيَدَّعِي لنفسِهِ مَقامَ الألوهية وهو واحدٌ من العبيد!.

 هذه هي قاعدةُ النظام الرَّباني الذي جاء به الإسلام، وعلى هذه القاعدة يقوم نظامٌ أخلاقي نظيف تُكفَلُ فيه الحريةُ لكلِّ إنسان، حتى لِمَن لا يَعتنق عقيدةَ الإسلام، وتُصَانُ فيه حرماتُ كلِّ أحدٍ حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتُحفظ فيه حقوقُ كلِّ مواطن في الوطن الإسلامي أياً كانت عقيدته.

 ولا يُكره فيه أحدٌ على اعتناق عقيدة الإسلام، ولا إكراه فيه على الدِّين إنما هو البلاغ.

 ولا يزال هذا الجهادُ لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضاً على المسلمين {حتى لا تكون فتنة ويكون الدِّين لله}، فلا تكون هناك ألوهية للعبيد في الأرض، ولا دَينونة لغير الله.

 {لا إكراهَ في الدِّين}.. نعم، ولكن: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}.. وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام، وهكذا ينبغي أن يَعرف المسلمون حقيقةَ دِينِهم، وحقيقةَ تاريخهم، فلا يقفوا بِدِينِهم موقفَ المتهم الذي يُحاول الدفاع، إنما يقفون به دائماً موقفَ المطمئن الواثق المُسْتعلي على تصوراتِ الأرض جميعاً، وعلى نُظم الأرض جميعاً، وعلى مذاهبِ الأرض جميعاً، ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دِينِهم بتجريده في حِسِّهِم مِن حقه في الجهاد لتأمين أهله، والجهادِ لكسر شوكة الباطل المعتدي، والجهادِ لتمتيع البشريةِ كلِّها بالخير الذي جاء به، والذي لا يَجْنِي أحدٌ على البشرية جِنايةَ مَن يحرمها منه، ويَحُول بينها وبينه. فهذا هو أعدى أعداء البشرية، الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رَشُدَتْ وعَقِلت. وإلى أن تَرْشُد البشرية وتعقِل، يجب أن يطارده المؤمنون، الذين اختارهم الله وَحَبَاهُم بنعمة الإيمان، فذلك واجبُهم لأنفسِهم وللبشريةِ كلها، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله عز وجل.