أصولُ مشروعِنا الإسلاميّ 1

أصولُ مشروعِنا الإسلاميّ

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

1 من 4

مصدر الظلم في المناهج البشرية ومشروعاتها

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

(آل عمران:64)

تعرض لنا هذه الآية الكريمة جملةً من الأمور العَقَدية، ذات الأهمية البالغة في توضيح الخطوط الفاصلة بين الشرك والإيمان، وذلك بشكلٍ محدّد.. كما تفتح الطريق واسعاً، أمام فهم خطورة انجرار المسلمين وراء المشروعات الوضعية ومناهجها، ووراء المخططات الاستعمارية الحديثة، سواء أكان منشؤها أميركة والدول الاستعمارية الدولية أو الإقليمية الكبرى.. أم أنظمة الحكم التي لا تحكم بما أنزل الله عز وجل.. وبذلك، فإنّ هذه الآية العظيمة تعرض لنا المفاهيم التالية :

1- مفهوم العبادة بشكلٍ عام، وعبادة الله عز وجل خاصةً.

2- تجنّب إشراك غيره سبحانه وتعالى في العبادة.

3- مفهوم الربوبية، وتجنّب اتخاذ غير الله عز وجل ربّاً أو إلهاً.

4- المفاصلة العَقدية الكاملة بين أهل الإسلام وأهل الشرك أو الكفر.

مناقشة المفاهيم الأربعة

العبادة : هي التوجّه إلى الله عز وجل بكل أمر، والخضوع إليه خضوعاً كاملاً، والتذلل له، مع إرفاق كل ذلك بمحبّته الكاملة سبحانه وتعالى.. وقد ورد في محكم التنـزيل قوله عز وجل:

(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل:36).

والطاغوت : الوارد ذكره في الآية الكريمة الآنفة الذكر (.. وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ..)، هو كل ما يُعبَد من دون الله عز وجل، وهو الذي يصرف الناس عن طريق الخير، وهو كذلك، كل سلطةٍ أو قوّةٍ أو قيادةٍ تتمرّد على شرع الله ومنهجه، ثم تحمل الناسَ على تنفيذ منهجٍ للحياة، تشرّعه من عندها، وتضعه للناس بيدها وفق رؤيتها أو هواها.

والربّ : الوارد ذكره في الآية: (.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)، هو المدبِّر والمشرِّع، والسيّد، وصاحب السلطة العليا، أي: مَن يضع الشرائع والدساتير للناس لتكون لهم منهجاً لحياتهم.. أو: هو مَن يضع لهم (دِيناً) يعملون به ويحتكمون إلى ما جاء فيه.. في كل شؤون حياتهم.

والدِّين : هو الذي يحدّد النظام والمنهج الفكري والعملي للسلطة العليا، وهو الشرع والقانون، وهو الذي يحدّد الحاكمية وسلطات السلطة العليا، ويحدّد طريقة الإذعان لها، كما يحدّد الجزاء والحساب والثواب والعقاب.. وفي هذا يقال مثلاً: (فلان دانَ الناسَ)، أي: قهرهم أو حملهم على الطاعة، كما يُقال: (دِنْتُهُ)، أي: سُسْتُهُ ومَلَكتُهُ.

ولمزيدٍ من توضيح الصورة في شرح المفاهيم الآنفة الذكر.. نوضح معنى (الإله)، فنقول:

الإله : هو الذي يتوجَّه إليه الناس بالعبادة والطاعة والخضوع التام.

بعد شرح المفاهيم السابقة، نعود إلى الآية الكريمة التي بدأنا بها: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا..)، لنتساءل:

هل يمكن للبشر أن يكونوا أرباباً؟!.. وكيف يكون ذلك؟!..

- الجواب واضح من الآية الكريمة نفسها: (.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)!.. أي: إنّ البشر يمكن أن يصيروا أرباباً.. لكن كيف؟!..

- الجواب : بِسَنّهم تشريعاتٍ للناس، وفرض أوامرهم ومناهجهم ودساتيرهم الخاصة عليهم!.. ولتوضيح ذلك نسأل:

لماذا يوضَع التشريع أو منهج الحياة؟!..

- الجواب : لينفَّذ على الناس.

فإذا سألنا أيضاً:

ما مضمون التشريع أو منهج الحياة؟!..

- الجواب : يتضمّن منهج الحياة: تنظيم كل جوانبها، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأحوال الشخصية والتربوية والثقافية و.. أي: إنّ منهج الحياة ينظم شؤون الناس في كل أمرٍ خاصٍ أو عامٍ من حياتهم!.. وسبق أن قلنا: إنّ أي منهجٍ موضوعٍ، لا يوضَع إلا لينفَّذ على الناس، ولِيُحمَلوا على تنفيذه بقوّة القانون وسطوة السلطة التي وضعته!.. وهنا نسأل:

- مَن الذي يَدَع الآخرين أن يتصرّفوا بكل أموره وشؤونه وحياته وعلاقاته ومأكله ومَشْربه ومَلْبَسِهِ و..؟!..

- الجواب : العبد.. نعم العبد الطائع المنقاد وحده، هو الذي يترك للآخرين التصرّف بشؤون حياته على ذلك النحو!.. وإذا عرفنا أنه من الأمور البديهية، أنّ لكلّ عبدٍ سيداً أو ربّاً.. فإننا سنصل إلى النتيجة النهائية التالية:

النتيجة :

يتحوّل الناس في ظل تشريع بعضهم لبعضهم الآخر .. إلى فئتين:

1- أرباب يُشرِّعون ويضعون منهج الحياة.

2- وعبيد يطيعون وينفِّذون ما يضعه الأرباب لهم.

وهذا بالضبط ما جاء القرآن الكريم ليدحضه ويلغيه من أساسه، بقول الله عز وجل: (.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)!.. أي بمعنىً آخر:

(لا يطع بعضنا بعضاً في معصية الله، بتنفيذ منهجٍ موضوعٍ بأيدي البشر، غير منهج الله ودستوره وشرعه الذي أراده لهم)!..

بعد ذلك يمكن أن نسأل السؤال المهم التالي:

مَن هو الذي يليق به أن ينظّم حياة الناس (أي: يضع لهم منهج حياتهم، ويُشرِف على تنفيذه)؟!..

للجواب على هذا السؤال، نعرض المثال التالي:

عندما يخطئ الطبيب في تشخيص مرض المريض، فيصف له علاجاً خاطئاً بناءً على تشخيصه الخاطئ.. فإنّ ذلك الخطأ سيؤدي إلى إحدى نتيجتين: إما استمرار علّة المريض وتفاقمها.. أو موته!.. وفي الحالتين، فإنّ المريض يكون قد لحقه (ظلم) من قبل الطبيب، على الرغم من أنّ الطبيب في الأصل لا ينوي أن يظلم مريضه، والظلم هنا لا يقع على المريض فحسب، بل يمكن أن يتأثر به أولاده الذين يعولهم، وزوجته، وربما أصحابه وأقاربه وهكذا ..!.. وبكلمةٍ أخرى نقول:

لقد (أخطأ) الطبيب (على حسن نيّته في سعيه الجادّ لمعالجة مريضه).. فنتج عن خطئه (ظلم)، وهذا يقودنا إلى القاعدة التالية:

(الخطأ يؤدي عند التنفيذ إلى الظلم)!..

احفظوا هذه القاعدة، وانتقلوا معي إلى الفكرة التالية:

كل مناهج الحياة توضع لتحقيق (سعادة) الإنسان (على افتراض أنه لا خلاف على النيّة الحسنة)، لذلك ينبغي لها ألا تكون ظالمةً في أي بندٍ من بنودها أو أي جزئيةٍ من جزئياتها، لأنّ وقوع الظلم لن يؤدي إلى سعادة الناس بأي حالٍ من الأحوال.. فإذا كان منهج الحياة ودستورها من وَضْعِ الإنسان نفسه، أي من وَضْع البشر، فإنها ستحتوي حتماً على الكثير من الأخطاء، لأنّ الإنسان (خطّاء)، وبالتالي سيقع في موضع كل (خطأٍ) في ما يضعه الإنسان -عند التنفيذ- (ظلمٌ) على قدره ومقداره، فيكثر الظلم بمقدار كثرة الأخطاء في منهج الحياة الموضوع.. لذلك ينبغي لمن يضع منهج الحياة للناس وينظّم شؤونهم، أن يكون منـزّهاً من (الأخطاء)، فيكون بذلك منـزّهاً من (الظلم)، فتتحقق (سعادة) الإنسان!.. أي بمعنىً آخر: هو مَن يملك أن يضع للناس منهجاً صحيحاً خالياً من الأخطاء، وصحّة المنهج شرط أساس هنا، فمن هو الذي يتصف بهذه الصفة العظيمة؟!..

- الجواب : الله عز وجل وحده الذي لا يخطئ، فهو لا يظلم، فهو الوحيد القادر على تحقيق سعادة الإنسان.. والوحيد الذي يليق به أن ينظّم حياة الناس: بِوَضْعِ منهج الحياة الصحيح لهم، ثم بالإشراف على تنفيذه بشكلٍ صحيحٍ عادلٍ لائق!..

وغني عن الذكر، أنّ واضع المنهج أيضاً، ينبغي أن يكون عادلاً، وحكيماً، وخبيراً، وقادراً على محاسبة الناس مهما عَلَت رتبهم، وقادراً على الانتصار للمظلوم أو صاحب الحق حتى بعد موته أو موت ظالِمِه، لكي يتحقق العدل فلا ينجو ظالم ولا يضيع حق مظلوم.. و.. و.. فمن يتصف بهذه الصفات غير الله تبارك وتعالى؟!..

النتيجة الأخيرة

كل المظالم الواقعة الآن في الأرض، سببها أنّ مناهج الحياة في أسُسِها التي تُبنى عليها، يضعها البشر الذين يخطئون (حتى على افتراض حسن النية)، فهم بذلك يَظلِمون، وهم بذلك أيضاً يصادِرون (سعادة) الإنسان!..

أي : إنّ الظلم الذي يقع الآن في الأمة الواحدة، أو بين الأمم في الأرض.. وإنّ تعاسة الإنسان المتعدّدة الأشكال والألوان الناجمة عن ذلك.. إنّ ذلك كله، نابع من (الأساس) الذي تقوم عليه كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية (الفردية، والقومية، والاشتراكية أو الشيوعية، والديمقراطية الرأسمالية، وغيرها..) .. هذا (الأساس) هو:

إنّ البشر هم الذين وضعوها!..

2 من 4

الأصل الأول في الإسلام أو : الهدف 

لقد وصلنا في الحلقة السابقة إلى النتيجة المهمة التالية:

[إنّ كل المظالم الواقعة الآن في الأرض، سببها أنّ مناهج الحياة يضعها البشر الذين يخطئون، فهم بذلك يَظلِمون، وهم بذلك أيضاً يصادِرون (سعادة) الإنسان!.. أي:

إنّ الظلم الذي يقع الآن في الأمة الواحدة، أو بين الأمم في الأرض.. وإنّ تعاسة الإنسان المتعدّدة الأشكال والألوان الناجمة عن ذلك.. إنّ ذلك كله، نابع من (الأساس) الذي تقوم عليه كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية (الفردية، والقومية، والاشتراكية أو الشيوعية، والديمقراطية الرأسمالية، وغيرها..).. هذا (الأساس) هو: (إنّ البشر هم الذين وَضَعوها)]!..

كما انتهينا إلى نتيجةٍ مهمةٍ ثانية، هي:

[إنّ الذي (يضع) منهجاً للحياة، يحوِّل نفسَه إلى (ربٍّ) من دون الله، وإنّ الذي (يطيعه) في معصية الله وينفّذ منهجه الوضعيّ، يحوِّل نفسَه إلى (عبدٍ) لذاك الربّ المزيّف]!..

بعض وجوه الألوهية والربوبية والعبودية

- لقد قرّر القرآن العظيم، أنّ الإله يمكن أن يكون (بشراً)!.. كيف؟!..

- الجواب : بالطاعة والخضوع التام له في معصية الله عز وجل:

(قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (الشعراء:29).

إنه تهديد الطاغية فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام، إذ يريد فرعون من موسى، أن يتركَ رسالته التي أنزلها الله عز وجل إليه ليبلّغ بها الناس، ويخضع (بدلاً من ذلك) خضوعاً تاماً لفرعون الجبار الطاغية، ويطيعه في ضلاله وطغيانه وكفره وتألّهه، ويتّبع دستوره وقوانينه!..

- كما قرّر القرآن العظيم، أنّ الإله يمكن أن يكون (هوىً):

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (الفرقان:43).

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثـية:23).

والهوى قد يكون فكرةً، أو شهوةً، أو عقيدةً فاسدةً، أو شهرةً.. يخضع لها الإنسان ويتحوّل إليها عن دِينه وعقيدته، وعن إله السماوات والأرضين.

- كما قرّر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أنّ الإله يمكن أن يكون مالاً:

(تَعِسَ عبدُ الدينار، وعبدُ الدرهم، وعبدُ الخَميصة) (البخاري).

والمال قد يكون عقاراً، أو لباساً، أو زينةً، أو نقداً، أو ذهباً وفضةً.. يخضع له الإنسان وينساق وراءه، فيبيع دِينه ومبادئه بِعَرَضٍ من الدنيا الزائلة، ناسياً الله عز وجل.. وما أشدها من تعاسة، عندما يحوِّل الإنسان نفسَه إلى عبدٍ ذليلٍ للمال!..

- وسبق أن قلنا: إنّ القرآن العظيم قرّر أنّ الربّ يمكن أن يكون (بشراً):

(.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..) (آل عمران: من الآية 64).

- كما قرّر القرآن العظيم، أنّ العبادة (بمعنى الخضوع والطاعة في معصية الله عز وجل) يمكن أن تكون للبشر:

(فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (المؤمنون:47).

(قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) (القصص:63). أي: (ما كانوا إيانا يطيعون ويعبدون هواهم الذي زيّن لهم طاعتنا).

القرآن العظيم يحسم القضية :

كيف يتحوّل الإنسان إلى إلهٍ أو ربٍ يُعبَد ؟!..

1- الذين ينظمّون شؤون الحياة بدساتيرهم وقوانينهم ومناهجهم، يتحوّلون إلى آلهةٍ وأرباب:

(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31).

فقد دخل عَديّ بن حاتم الطائي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية، فقال: [إنهم لم يعبدوهم يا رسول الله، فقال: بلى!.. إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام (أي نظموا لهم شؤون حياتهم بغير منهج الله عز وجل).. فاتّبعوهم (أي أطاعوهم)، فذلك عبادتهم إياهم]!.. (تفسير ابن كثير-ج2-ص348-طبعة دار إحياء الكتب العربية).

2- الذي يطيع واضعَ القانون أو المنهج أو الدستور يرفعه إلى رتبة ربّ العالمين:

وهذا خطاب العبيد يوم الحساب لزعمائهم الذين أطاعوهم في الحياة الدنيا على الضلال:

(فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:94-98).

يقول ابن كثير: (إذ نسوّيكم بربّ العالمين، أي: نجعل أمركم مطاعاً كما يُطاع ربّ العالمين).

3- المنهج أو القانون الذي يضعه البشر يتحوّل إلى دينٍ للذين ينفذّونه:

(.. مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (يوسف: من الآية 76).

يقول ابن كثير: (لم يكن ليأخذه في حُكْمِ ملك مصر، أي: قانونه).

الأصل الأول في الإسلام أو (الهدف) : لا إله إلا الله محمد رسول الله

كلنا نقولها ونردّدها صباح مساء، فهل نعمل بمقتضاها، ونبرئ ذمّتنا أمام الحي القيوم الذي لا إله سواه؟!..

لنعلم أنّ الإيمان بهذا الهدف العظيم يقتضي ما يلي:

1- نبذ كل إلهٍ أو ربٍ غير الله عز وجل، فلا يتّخذ المسلم منهجاً للحياة إلا الإسلام، وينبذ مناهج الطواغيت وأذنابهم، ومناهج كل الآلهة والأرباب المزيّفين، ويرفض مشروعاتهم ومخططاتهم التي تستهدف الدين والوطن والإنسان والثروات والحاضر والمستقبل.. سواء أكانوا بشراً يشرّعون من عند أنفسهم، أو حجراً، أو هوىً، أو مالاً، أو متاعاً.. أو غير ذلك!..

2- وأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الذي نقل منهج الله إلى الناس عن طريق الوحي، وفسّره ووضّحه، وأحاله إلى واقعٍ محسوسٍ، وبنى عليه أمة الإسلام ونظّم شؤونها.

3- أن يتحرّر المسلم المؤمن بهذا الهدف، من كل ظلمٍ وجَورٍ وبغيٍ ينجم عن المناهج البشرية الوضعية الخاطئة.. الظالمة.

- بعد ذلك نسأل السؤال ذا الأهمية البالغة: هل يبقى المؤمن مؤمناً، إذا اتبع منهجاً غير منهج الله عز وجل، وأطاع طاغوتاً أو رباً مزيفاً أو قوّةً استعماريةً أو احتلاليةً أو عقديةً على غير عقيدة الإسلام الصحيحة، وخضع لهم في كل شؤون حياته أو في بعضها.. هل يبقى المؤمن مؤمناً إذا فعل ذلك؟!..

- للجواب على السؤال السابق نقول:

ما الفرق بين المشرك الذي ينفّذ منهجاً للحياة غير منهج الله عز وجل، وبين من يلهج بذكر هدف الإسلام العظيم: لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل وقت، من غير أن يعمل بمقتضاه (1و2و3) الذي ذكرناه آنفاً؟!.. كيف يقول المسلم: لا منهج للحياة إلا منهج الله (لا إله إلا الله)، ثم ينفّذ مناهج الطواغيت والأرباب المزيّفين، وينصاع للمخططات الاستعمارية والمشروعات الاحتلالية، أو يتواطأ مع واضعيها لتنفيذها على شعبه وأمّته؟!..

بمعنىً آخر : كيف يقرّ المسلم بطاعة الله عز وجل، وبتنفيذ منهجه القويم الصالح لكل زمانٍ ومكان، وينطق بالشهادتين، من غير أن يتبنى منهجه عز وجل، ومن غير أن ينبذ مناهج البشر ومخططاتهم الشريرة؟!.. ثم يطيع مع الله سبحانه وتعالى منهجاً آخر وَضْعِياً يضعه الطواغيت، فيحوِّلهم إلى (أربابٍ) له، ويحوِّل نفسَه إلى (عبدٍ) لهم، مع إقراره بعبوديته لله عز وجل، وبأنه سبحانه وتعالى هو ربه؟!.. أي: يُشرك عبادته لله.. بعبادة البشر (الطواغيت والأرباب المزيّفين والقوى الشريرة التي تستهدف أمّته وعقيدته ودينه)!.. أليس هذا هو: (الشرك) في الإسلام بأوضح معانيه؟!..

يقول ربّ العزة سبحانه تبارك وتعالى في محكم التنـزيل، موضّحاً حقيقة الشرك في الإسلام وجوهره:

(.. وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

(الأنعام: من الآية 121).

يقول ابن كثير في تفسير ذلك: (حيث عَدَلْتُم عن أمرِ الله وشرعه إلى قول غيره، فقدّمتم عليه غيرَه، فهذا هو الشرك، كقوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله..)!..

ويقول الله عز وجل في محكم التنـزيل:

(.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: من الآية 44).

(.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: من الآية 45).

(.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: من الآية 47).

لنلاحظ كيف جاءت الآيات الثلاث في سورةٍ واحدةٍ متتابعةً تقريباً، ولنلاحظ الكلمات: الكافرون، الظالمون، الفاسقون!.. وكلها مرتبطة بالحكم بغير ما أنزل الله، الذي سيوقع الناس في: الكفر، والفسق، والظلم.. ولنلاحظ كيف ارتبط الظلم بالحكم بغير ما أنزل الله، وذلك ما شرحناه وحلّلناه في حلقتنا الأولى السابقة (مصدر الظلم في المناهج البشرية)، عندما توصّلنا إلى القاعدة الدقيقة: (الخطأ يؤدي عند التنفيذ إلى الظلم)!..

- بعد هذا قد يقول قائل :

طالما أنّ خطر الشرك واقع على كل المسلمين، لأنّ حكامهم وأنظمتهم أو (أربابهم)، الذين قد يكونون حُكْماً فردياً، أو حزباً، أو طائفةً، أو عشيرةً، أو أسرةً، أو قوّةً خارجيةً، أو أي فئةٍ تحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، وبغير منهجه وشرعه القويم سبحانه وتعالى.. طالما أن هؤلاء يجبرونهم على تنفيذ شرعٍ غير شرع الله ومنهجٍ للحياة غير منهج الله.. فما السبيل للتخلص من هذا الخطر العظيم المُهْلِك في الدنيا والآخرة: الشرك؟!..

- الجواب في قوله عز وجل :

(فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52).

وهذا ما ينقلنا لمناقشة (الأصل الثاني) في الإسلام، أو: (وسيلة تحقيق الهدف)، وهو: (الجهاد في سبيل الله)، الذي سنلقي عليه الأضواء شرحاً وتفصيلاً وتوضيحاً في الحلقة الثالثة القادمة بإذن الله عز وجل.

يتبع إن شاء الله

              

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام