العالم العربي والثقافات الثلاثة المقترحة

لولوة غازي

تتكاثر الكوارث في منطقتنا العربية أزمة تعقبها الاخرى , كل أزمة تأتي بدون وجود  أدنى حل لسابقتها , لتتضخم  كل واحدة منها  بطريقة مفزعة تقلب حياة  شعوبنا رأسا على عقب  وتقلق معها المهتمين والمتابعين لما يجري على أرض الواقع.

 وقد  تطغى حرب غزة وأحداثها الجسام الآن على ما يحصل من مجازر ومؤامرات  في سوريا وليبيا والعراق , لتظهر بينهما بوضوح إرهاب غير مسبوق , من فئة  داعش ودولتهم الاسلامية المزعومة في العراق وسوريا , كل تلك الصراعات والتأججات  المفتعلة  في  أغلبها ,جلبت أمراضا مدمرة على المدى البعيد وحتى القريب , بدأت مع حروب طروادة والفرس في القرن الثاني عشر قبل الميلاد ولم تنته إلى يومنا هذا, وكيف أن هذه التقلبات وتكاثفها قد أفرزت للعالم بأسره نماذج بشرية تحقد على نفسها أولا , وتظن أنها المنقذ الأوحد للبشرية , لتصل  المنطقة بعدها إلى تداخل لا حصر له من الأحداث المحلية والعالمية  والتي أغرقت البلاد في حروب أهلية لا طاقة لنا بها , لتزداد معها  رغبة الشباب  بالموت وزهق الأرواح بدون تفكير .

لنجزم أن (ثقافة الموت) هي المسيطرة  على كل ثقافات المنطقة العربية , كرمي النفس وتفجيرها كما يحدث يوميا في العراق وليبيا , أو الموت بحرا  في سبيل  الهجرة اللاشرعية إلى سواحل أوروبا وهو ما حصل للسورين وما يحصل الان لشباب غزة  أو الموت الداعشي المؤكد  الذي لا يرحم فيذبح من حوله بدم بارد  ويغتصب ويسطو ويشرد أهل البلاد الأصلين من مسيحيين    بحجة رفضهم  أن يكونوا مسلمين , فيقتلون  أحياءا  باسم الدين وتغطية  كل هذا  بغطاء إسلامي مغلوط  وتحيا معه خرافاتهم السوداوية والوحشية , تنتشر هنا وهناك , لا تمت لأي دين بصلة .

 عندها تطرح تلك الاستفهامات التي  لا حصر لها عن كيفية  استطاعت  داعش أن يسطو على أراض عراقية وسورية وسهولة  تمكنه  من زرع ثقافة الموت  بين مؤيديه , وتشكيك الآخرين  من مسلمين بمعتقداتهم  ,  بحيث يصبح هدف داعش الأوحد هو كره الحياة وتفضيل الموت والإسراع فيه وإليه ؟ والأدهى والمحير من ذلك كله , كيف نشر هذا  الحقد والكره بين المسلمين وبين غير المسلمين ؟ وكيف قلبت موازين العدل والرحمة معه ؟ لنشاهد  على قناة سكايب نيوز أن العراقي المسلم  يكون عونا ومساندة  لداعش على تشريد جاره العراقي المسيحي لأنه لم يدخل الإسلام,  وتحويل  أواصر الأخوة عبر الأف من السنين إلى عداء ومقت رهيب ؟

 وهل لنا أن نجزم أن من أسباب ظهور داعش هم الدعاة الإسلامين المنافقين في زمننا هذا وتبنيهم موقفا لا أساس له مع غيرهم  وتفسيرهم لنصوص الكتاب والسنة بطرقهم الملتوية واجتهاداتهم الجاهلة تجاه المختلفين عنهم عقائديا؟ , لينعكس هذا الأمر المهين على الأمة جمعاء ,  وتصاب بالشذوذ الفكري وهو ما أوضحه فهمي هويدي في كتابه (مواطنون لا ذميون) مفصلا الأسباب التاريخية  التي عمقت من تبني معتقد التكفير للمسيحي وحتى للمسلم على السواء  .

وفي الوقت نفسه يتخصص كتاب (الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري) للآدم متز ويذهب( أن التسامح الموجود في تلك الحقبة لم يكن موجودا بتاتا في أوروبا ومن مظاهر ذلك هو نشوء علم مقارنة الأديان ودراسة الملل والنحل على اختلافها والاقبال عليها بشغف)

 

ويؤيده كتاب ( المسيحيون العرب دراسات ونقاشات) حيث يسجل ادمون رباط في بحثه (المسيحيون في الشرق قبل الاسلام) أن حرية المعتقدات في العصور الوسطى الإسلامية كانت حقيقة واقعة مع أن القاعدة المتبعة في اوروبا في ذلك الزمن (  أن لكل مملكة دينها ,مما يؤدي لان يصبح الشعب على دين الملك)

أما الثقافة الثانية والتي يحس بها مثقفونا  الآن ,  تتكاثر وتزيد في الغرب عنه في الشرق , هي( ثقافة التنوير) وعشق الواقع بمحاسنه وعيوبه , ثقافة  ترفض الأفكار المغلوطة  وينمو معها الوعي  الانساني والتفريق  بين من هو ظالم وبين من هو مظلوم , والعمل وسويا كشعوب  تسيرها القوانين , واظهار ذلك اعلاميا , وقد نطلع على  ثقافة التنوير بطريقة منظمة ومعنونه في مقال باللغة الانجليزية ( فشل الدعاية الاسرائيلية وسياسة التضامن الدولي ) للدكتور جميل خضر المترجم للعربية  والذي ذكر فيه أن آخر التقارير الدولية تثبت بأن أعداد الشباب المشاركين في المسيرات والاحتجاجات والمظاهرات لمناصرة غزة كانت أكبر من غيرها ويركز أيضا المقال على مواقف الحكومات الرسمية المعلنة تجاه اسرائيل  وضرورة محاسبتها دوليا لانتهاجها سياسة الابادة الجماعية في غزة .

لنرى أن ثقافة التنوير هذه لا تتفق ولا تتناسب مع واقعنا السياسي المر و إفرازاته المخيفة , مثل قتل الرأي الآخر وعدم الاكتراث  لمعاناة الأخ والجار بل وشيوع كلام الشوارع بكثرة ( إلي فينا مكفينا) .

لتظهر ثقافة ثالثة بقوة  لا تمت لحياتنا السياسية والاقتصادية بصلة,  والتي كتب عنها الكاتب أمين معلوف في كتابه (اختلال العالم) وهي (ثقافة المغامرة ) وحب المخاطرة لتحسين اقتصاد الشعب وترفيهه ليصبح مكتفيا وقادرا على العمل والابتكار معا , وهي الثقافة التي تتواجد فقط عند الشعوب الآسيوية وبعضا من  شعوب أمريكا الجنوبية كالبرازيل مثلا , فالقارئ للكتاب يرى كيف أن وزيرا هنديا للمالية عام 1991 ومسؤولا واحدا من الصين عام 1988,  فكر وقرر أن يحسين اقتصاد شعبه  وتبنى الشعب معه  ذلك الميل الى الانطلاق بسرعة البرق وعدم  أخذ رأي القوى العظمى لتفعيل  ذلك وتلك ,  بل وجعلوا من تلك الإرادة   ثقافة  هدفها وأولوياتها  شعبية , ليصبح  اقتصاد البرازيل الحالي أقوى من اقتصاد  فرنسا  وهذا الكلام ينطبق أيضا على الصين والهند ومنافستها الضخمة  والتي أقلقت معها أمريكا وأسواقها العالمية

وفي الوقت نفسه  , نجد عالمنا العربي غارقا في مستنقع من الوحل الاخلاقي و الاقتصادي ليصل حجم العاطلين عن العمل فيه 20 أكثر من مليون , فهو العاجز على الصمود  والاكتفاء الذاتي والمحاصر بعالم  سلاحه يسبق نقاشه وحواراته .

فهل آن الأوان لشعوب طحنها الذل الفقر والبطالة أن تنعم بثقافة المغامرة ؟, ثقافة لن تأت هكذا إلا بعد أن تهزنا جميعا بنتائجها  وتزيد الأجيال القادمة نضجا ووعيا بأهمية أعملنا , ثقافة ستسمى  بعدها بثقافة الإنقاذ عندنا

ستجمعنا معا كبشر متسامحين وتضمن قيام قيم إنسانية مشتركة  متنوعة  دون حروب ودمار أو تشريد, نتفادى معها السقوط  العلمي والنضوب الفكري العربي  بطريقة قد يخجل التاريخ من توثيقها.